بعد أن دخلت إلى لغتنا مفردات فرضها العصر، منها ”إنترنتيّون” و”فيسبوكيون” و”مُغرِّدون”، ها نحن نستقبل في قاموسنا اليومي تسمية جديدة هي ”مُسَرِّبون”. والمفردة ليست غريبة على الاشتقاقات اللغوية، إنها تنتمي إلى الفعل ”سرَّبَ”، والمصدر ”تسريب”. وبناء عليه صارت الصفة مصطلحًا يطلق، اليوم، على أولئك الذين يستخرجون الخفايا من زوايا العتمة وصناديق الأسرار ويذيعونها على الملأ، عبر وسائل الاتصال الحديثة. لعل التسريبات لازمت البشرية منذ نشوئها. لكن وسائل الإذاعة كانت محدودة ولا تتجاوز المسافة بين فم أحدهم وأذن الآخر. أما اليوم، فإن حياتنا قنوات وشاشات وهواتف وكاميرات وسياسة في سياسة. وهي ميدان تلعب فيه الشائعات والأسرار والتسريبات دور السلاح الأمضى. وكان خصومنا الإسرائيليون بارعين في اللعبة. يتكتمون حين يناسبهم الصمت ويسرِّبون حين يواتيهم نشر الغسيل على السطوح. منذ فترة وأحاديث التسريبات تشغلنا جميعًا، من لبنانيين وعراقيين ومصريين وتوانسة ويمنيين وسوريين وخليجيين. وهي ليست شاغلا عربيا فحسب بل معولما. وما ”ويكيليكس” وصاحبها جوليان أسانج سوى العنوان الأبرز. ففي فرنسا، اليوم، جدل مثير حول الصفة التي تمنح للمسرِّبين وكيفية التعامل معهم. ويطالب هؤلاء بتشريع يحميهم من الملاحقة والانتقام. ومثالهم الأعلى ”مُسرِّبة” تدعى ستيفاني جيبو، قامت بما يبدو أنه تصرف طبيعي لمواطنة صالحة. لكنها وجدت نفسها في ورطة دولية ودبلوماسية أكبر منها بكثير، وفقدت وظيفتها المرموقة في مصرف سويسري كبير في باريس. لقد تمردت على أوامر رؤسائها ورفضت إتلاف ما في القرص الصلب لحاسوبها من قوائم تتضمن أسماء عدد من العملاء (بالمعنى المالي لا الجاسوسي). وكان حس المواطنة لديها يمنعها من التغطية على حسابات مشبوهة وجرائم تبييض أموال ومليارات نقلت إلى سويسرا للتهرب من الضرائب. حكاية مدام جيبو، ربة الأسرة والأم والموظفة القديمة والقديرة التي وجدت نفسها مطرودة من الخدمة، صارت حديث الفرنسيين من مواطنين صالحين أو طالحين. فحين بحثت عن عمل جديد، مشفوعة بشهاداتها وخبرتها في فنون التسويق والعلاقات العامة، رفض الكل تشغيلها لأنه لا يريد ”قنبلة موقوتة” في الشركة ولا يثق بموظفة ”خانت” عملها السابق. وقد شاعت حكايتها بعد الكتاب الذي أصدرته بعنوان ”المرأة التي عرفت بالفعل أكثر من اللازم”. ألا يذكركم العنوان بفيلم هيتشكوك القديم، بطولة جيمس ستيوارت ”الرجل الذي عرف أكثر من اللازم”؟ كتاب المُسرِّبة الفرنسية يشبه، في بعض فصوله، تشويق ذلك الفيلم الأميركي، فقد عانت من العزل والبلطجة والتنصت على هاتفها، ورأت زميلاتها ينقلبن ضدها، وحاسوبها يتعرض للقرصنة وتختفي منه القوائم المشبوهة. ثم تعود بعد حذف أسماء كثيرة منها. وعندما دفعتها الضغوط إلى الانهيار العصبي، أشاعوا أنها مجنونة فقدت عقلها. لكن ”المواطنة الصالحة” قررت المضي في دورها، واتصلت بجهاز الرقابة المالية للإبلاغ عما لديها من معلومات. وبسبب خوفها من انكشاف أمرها وما قد يتبع ذلك من تهديدات، فإن لقاءاتها مع محققة الشرطة المالية كانت تجري في الطابق تحت الأرضي من متجر ”غاليري لافاييت”، في حي الأوبرا. وهناك، وسط زحمة الزبائن وضجيج مكبرات الصوت، كانتا تتمشيان في الممرات مثل صديقتين في جولة تسوق، تتبادلان حديثا عاديا وهما تتلمسان الأقمشة وتتظاهران بقياس الأحذية. يبدو لي أن صفة ”المواطن الصالح” تحتاج، في زمننا الراهن، إلى إعادة تعريف. وكذلك ”الموظف النزيه”. ومثلهما ”صاحب الضمير” أو ”خايف الله”، وغيرها من اعتبارات أخلاقية ودينية. فقد دخلت على التعريفات التقليدية السابقة تقييمات من نوع ”غشيم”، و”حامل السلم بالعرض”، و”لا يعرف من أين تؤكل الكتف”. ومن هنا حتى يعود العالم للمشي على رجليه، لا على رأسه، فإن ستيفاني جيبو ما زالت تبحث عن عمل. وهي تقول للرائح والغادي إن تسريباتها سمحت باستعادة أكثر من مليار يورو إلى الخزينة الفرنسية. لكنها لم تقبض سنتا، وما زالت قضية فصلها من المصرف أمام قاضي العمل. إن كل ما تريده هي أن تصدر المحكمة إقرارا تعترف فيه بأن ”هذه المواطنة خدمت بلدها”. لا أكثر.