في أواخر سورة آل عمران جاء قوله سبحانه: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال. الأول: أنها نزلت في النجاشي حين مات، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني، لم يره قط. روى النسائي عن أنس رضي الله عنه، قال: لما جاء نعي النجاشي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا عليه) قالوا: يا رسول الله! نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله عز وجل: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله). قال الهيثمي في حديث النجاشي: ”رواه البزار والطبراني في ”المعجم الأوسط” ورجال الطبراني رجال الصحيح”. ثم ذكره من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: ”رواه الطبراني في ”المعجم الأوسط”، وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ضعيف”. قال: ورواه الطبراني في ”المعجم الكبير”، وفيه سليمان بن أبي داود الحراني” وهو ضعيف”. ورواه الحاكم من حديث عبد الله بن الزبير، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. قال: ”وهو من طريق مصعب بن ثابت، وهو ضعيف، ولكن الحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى الحجية”. القول الثاني: أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وهو من اليهود الذين أسلموا. وهذا مروي عن ابن جريج وابن زيد. القول الثالث: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، اليهود والنصارى، روى ذلك الطبري عن مجاهد واختار الطبري قول مجاهد، وأن الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب، قال: ”وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله مجاهد ؛ وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله: (وإن من أهل الكتاب) أهل الكتاب جميعاً، فلم يخصص منهم النصارى دون اليهود، ولا اليهود دون النصارى، وإنما أخبر أن من (أهل الكتاب) من يؤمن بالله، وكلا الفريقين -اليهود والنصارى- من أهل الكتاب. واختار الرازي أيضاً ما ذهب إليه الطبري قال: ”هذا هو الأولى؛ لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب”. ثم إن الطبري أجاب على القول الذي يذكر أن الآية نزلت في النجاشي، بأن الحديث في إسناده نظر. ولو كان صحيحاً، لم يكن مخالفاً للقول بأن الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب؛ وذلك أن جابراً ومن قال بقوله، إنما قالوا: (نزلت في النجاشي)، وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي، حكماً لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي .. وحاصل القول: إن ما اختاره كلٌّ من الطبري والرازي هو الصواب في سبب نزول هذه الآية؛ وذلك أن الآية موضوع الحديث سُبقت بقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)(آل عمران:187)، وهي نزلت في اليهود، كما هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. ثم ذكر تعالى بعدها حال المؤمنين في تفكرهم، وذكرهم لربهم، ودعائهم إياه، وما أجابهم به، وتفضل عليهم، ثم عاد بعد ذلك إلى ذكر الطائفة الأخرى من أهل الكتاب، فأثنى عليهم بإيمانهم وخشوعهم، وما لهم من الأجر عند الله على ذلك. ومما يرشح هذا المسلك، وأن الحديث عن طائفتين من أهل الكتاب: كافرة، ومؤمنة؛ أن الله قال عن الكافرة: (فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون) أي: نبذوا الكتاب الذي جاءهم من عند الله، ولم يؤمنوا به، بينما وصف الطائفة الأخرى بأنهم (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا) فهاتان طائفتان متقابلتان..