تعددت التسميات وتعدد المخرجون، فمن عبد الحليم كركلا إلى جواد الأسدي الذي هرب وخلفه عمر فطموش في ملحمة ستينية الثورة، إلى علي عيساوي وفوزي بن براهم، قواسم مشتركة تجمعهم تحت عنوان كبير اسمه ”ملحمة” أو كما يسميها بعض الفنانين ”مشحمة”، من وراء منتج واحد هو الديوان الوطني للثقافة والإعلاشم. ووسط نقد كبير سواء من ناحية الإخراج أو النص الملحمي الذي دخل في الشعبوية بغية كسب الإبهار، النتيجة واحدة دائما ملحمة بدون روح. فيصل شيباني
المخرج المسرحي عقباوي الشيخ ”الملاحم عمل مناسباتي أكثر منه فعلا مسرحيا وفنيا”
يعتبر المخرج المسرحي عقباوي الشيخ أن ما يسمى بالملاحم في الجزائر، عمل موسمي مناسباتي أكثر منه فعلا مسرحيا وفنيا مستمرا، مضيفا ”لعل اللجوء أصلا إلى الملحمة في افتتاح مهرجان أو اختتامه أو في الاحتفاء بمناسبة وطنية أو غيرها ليس راجعا لمتطلبات فنية جمالية بالدرجة الأولى بقدر ما هي السياسة والتسييس لمن يوفر للملحمة شروط إنتاجها ماديا وتقنيا وفنيا، وهنا أفتح قوسا للحديث عن عناصر العرض المسرحي في ملاحمنا الجزائرية”. وأضاف عقباوي أن المتمعن في التجربة الملحمية في السنوات الماضية سيكون مجبرا على عدم الخوض كثيرا في مدى توفر العناصر الدرامية والجمالية المتعارف عليها عالميا في أي لوحة فنية مسرحية في هذه الملاحم، والسبب في ذلك معرفة الجميع بأن من وقف على الركح ومن صمم اللوحات ومن أدار الممثلين وركب الموسيقى والرقص لم يكن يحركه خياله الإبداعي ولا تجربته الفنية، إنما لكل حركة وكلمة حساب تحت عباءة السياسي”. وقال في نفس الشأن: ”من كواليس هذه الملاحم ما يصلنا مثل تحكم أو تدخل السياسي في الفني وتغير ما يلائم وخطاب الدولة على حساب المعطيات الجمالية، لذلك ما نراه أقرب إلى السيرك منه إلى المسرح والجمال، هي كرنفالات انتخابية أو تدعيمية لفلان أو علان لا غير، كأن يدوم خطاب الرئيس نصف عمر الملحمة فعن أي سينوغرافيا أو إخراج أو تمثيل نتحدث بعد ذلك؟”. وعن التكرار والقواسم المشتركة بين الملاحم خاصة ملحمة ستينية الثورة وملحمة قسنطينة الكبرى، أوضح عقباوي الضيخ أن الملحمتين جاءتا لتأدية نفس الدور، وهو ما سيجعلهما طبعا متشابهتين بالضرورة، فالمهم ليس تقديم تاريخ الجزائر بقدر السعي لتقديم إنجازات الرئيس، مضيفا بأن الأمور واضحة ولا تحتاج للكثير من البحث بالرغم من أنه يدعم وبشدة تولي الشباب لهذه المهمة أخيرا”. وبخصوص المستوى الفني قال المتحدث: ”لازلنا بعيدين عن المستوى الفني والجمالي الذي يليق بتاريخنا وسمعتنا والمشكل دوما سياسي، ثم سياسي، والجمال ليس بالضرورة الإبهار المتكلف، لذلك فإن السينوغرافيا غير الوظيفية لا تفيد أي عمل فني”. واعتبر المتحدث أن حتى كلمة الملحمة صارت مريبة في وقتنا هذا: ”من المفروض أن نقول عرض الافتتاح أو استعراض أو مسرحية أو كوميديا غنائية موسيقية، ليس الأمر صحيا لسبب وحيد بما أن العمل أنجز بمال الشعب، فعلى الشعب أن يشاهد هذا العمل بتوزيعه في كل الولايات، كما قد يكون الأمر عاديا في حالة سمي العمل بعرض الافتتاح أو الاختتام منذ البداية، وهذا يحدث في مهرجانات عالمية وفعاليات ثقافية عديدة، أما الملحمة هذه شخصيا أنزعج عند سماعها لأنها صارت مرادفا لشيء آخر للأسف”.
المخرج المسرحي جمال قرمي ”ملاحم الجزائر هدفها إبهار المتلقي بدون روح داخلية”
قال المخرج المسرحي جمال قرمي أنه قبل البدء في تحليل ما يحدث أو ما يقام من ملاحم في التظاهرات الثقافية في الجزائر، يجب أن التعريج على مفهوم الملحمة التاريخية، وهي قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تقص حكايات شعب من الشعوب في بداية تاريخه، وهي نموذج إنساني يُحتذى به، يفعل بحياته وسلوكه ما يمكن أن يطمح المرء لتحقيقه. يعبر مصطلح ”ملحمة”، حسب قرمي، عن أعمال عسكرية كبرى ويعبر أيضا عن الأدب الذي يضم هذا النوع، في حين يعتبر أن ما يقام في الأعمال الجزائرية هي سرد لتواريخ معينة خالية من تركيبة درامية منطقية أساسها مراحل أو فترات تاريخية التي مرت عليها الجزائر وكلها متشابهة في المضامين، في وقت يقول قرمي ”نجد التغيرات في الألوان واللباس والممثلين الذين يقومون بالعمل (الطاقم الفني ) بتشكيل أحادي في كل الأعمال أي الاعتماد على الراقصين والحركات الأحادية والتي هدفها إبهار المتلقي بدون روح داخلية، إضافة إلى استعمال تقنية ”البلاي باك” والتي يعتبرها المتحدث، تعطي للممثل تمثيلا اصطناعيا خارجيا بدون روح داخلية ما يسمى بالنفسية الداخلية. وحول الاعتماد على التقنيات المتطورة بدون المعرفة الحقيقة علي كيفية استعمالها، قال قرمي ”لا نستطيع القول بأن هناك سينوغرافيا حقيقية، لأن هناك فرقا بين الديكور والسينوغرافيا، حيث لا يوجد هناك بحث معمق في الأحداث التاريخية التي تعطينا دراما تاريخية يتخيل لنا أنها مبنية علي مقاييس ومعايير يتقبلها المنتج بما تريده الجهة الممولة لهذه الأعمال. وفي الأخير كشف قرمي أن الملحمة كعكة كبيرة يتقاسمها الجميع بدون التفكير في مشروع ثقافي أو سياسة ثقافية تخدم الأمة عامة والمثقف خاصة.
من يكون بن تركي حتى يهتم بالإنتاج الدرامي ؟ الدكتور والناقد حبيب بوخليفة ”الملاحم أكبر كارثة في تاريخ المسرح الجزائري”
يقول الدكتور والأستاذ في معهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان، حبيب بوخليفة، أن الملاحم هي أكبر كارثة في تاريخ المسرح الجزائري، فهي لا تختلف كثيرا عن مسرح القوال، فكلا النوعين يعتمدان على السرد والحشو ويغيب فيهما الفعل ويستطيع غبي أن ينتج في هذا المجال الذي يصنف في الأشكال البدائية للإنتاج الفني الدرامي، والدليل، يضيف بوخليفة، هي الأسماء التي غالبا ما ترتبط بهذا النوع الزاحف من إنتاج الخشبة المسرحية، فإذا حذفت أي مقطع في العرض لا يلاحظ النقص ”تصور أنك تقطع رأس أو أيدي أو رجلي لبني آدم ماذا يحصل؟ قد يموت أو تخلخل كل موازينه، هذه هي الصورة التي لابد أن يدركها الناس في بناء العرض، أما ”المشحمة” فهي لا تعاني النقص لأنها لا تنتمي إلى الجنس الدرامي للمتعة والفكر لأنها عبارة عن سرد أحداث متتالية تاريخية بتنشيط النص الأدبي المنقول بوسائل تقنية وموسيقى وأزياء”. وأضاف حبيب بوخليفة أنه بمجرد ما يخرج المشاهد من القاعة ينساها لأن الملحمة نوع أكل وشرب عليه الدهر. وفيما يخص الإنتاج الدرامي المسرحي تساءل بوخليفة إن كان أكبر المخرجين في صورة بيتربروك أو أنطوان فيتاز أو مييرهولد أو مخرجين كبار في العالم اهتموا بهذا النوع من الترقيع؟. وأوضح المتحدث أن هناك المسرح الملحمي بمفهومه الصحيح الذي اهتم به بيرتولد بريخت بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن في إطار جماليات ومواقف مبدعة فيما يخص الحركية الفكرية، دون أن يلغي البناء الدرامي للنص وحركية الفعل في العرض لظروف تاريخية، في حين يقول بوخليفة أن في الجزائر قاموا باستيراد هذه البضاعة الرديئة من نوع الأوبيرا أو الأوبيرات، وبحكم الافتقاد إلى مغنين كلاسيكيين وموسيقيين تم الاقتباس بالشعر والسرد وأشياء أخرى تتناقض مع فصيلة الأنواع المسرحية، بالتالي كانت الخطوات الأولى للفن المسرحي في المجتمع الجزائري بمفهومه الأرسطي ظاهرة مستعارة، شأنه شأن الأشكال الأدبية والفنية الأخرى كالصحافة والرواية. وتساءل المتحدث: ”هل توفرت كل الشروط الدرامية في التجربة المسرحية الجزائرية ؟ أم تنقصها العناصر نفسها التي أدت إلى تطور الظاهرة المسرحية في المجتمعات المتقدمة الأخرى؟ وهل العروض المسرحية التي نشاهدها هنا وهناك خصوصا في الفضاءات المسرحية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية ضعيفة لا تقوم على أسس الفن الدرامي مثلما عرفتها أوربا ؟ وما هي أسباب عدم استقرار الجمهور الجزائري وعدم تدفقه على القاعات المسرحية والفضاءات الثقافية المختلفة؟”. وأضاف بوخليفة: من يكون بن تركي حتى يهتم بالإنتاج الدرامي ؟ هل كان مخرجا أو كاتبا أو حتى منتجا ثقافيا؟ وكيف يمكن أن نركب عرضا بمستوى التاريخ الثقافي والحضاري للجزائر في ظرف خمسة عشر يوما؟ وقال الدكتور بوخليفة أنه يمكن تنظيم عرض كبير قد يكون معبرا عن ضخامة تاريخ الجزائر ولكن ليس بهذا الشكل الذي لا يقدم ولا يؤخر للتعبير عن وجودنا كأمة تنفرد بثراء ثقافي كبير، وليس كذلك مع انتهازيين لا يفقهون شيئا في العلوم المسرحية والملحمة.
المختص في السياسات الثقافية عمار كساب الأعمال الملحمية في الجزائر مليئة بالمغالطات أوضح الخبير في السياسات الثقافية، الدكتور عمار كساب، أن الملحمات المسرحية التي تنتجها وزارة الثقافة خلال التظاهرات الثقافية الكبرى تجسد أغلبها التاريخ الرسمي للجزائر، كما تصوره النظام، فتأتي هذه الملحمات، حسبه، مليئة بالمغالطات والأخطاء التاريخية التي تُنفر الجمهور الجزائري، الذي لا يرى صورة تاريخه الحقيقي فيها، ذلك التاريخ الذي سمعه عن أجداده أو قرأه من المؤرخين الجزائريين المعروفين بجديتهم وحرصهم على سرد الوقائع التاريخية كما جاءت. وأضاف كساب أن هذه الملحمات تطرح إشكالية تحريف الهوية الجزائرية التي جمدها النظام (رسميا وليس فعليا) في نصوص رسمية تختصرها في الثقافة العربية والإسلامية فقط، قائلا: ”بذكر ذلك أستحضر مشهدا مشهورا من فيلم ”عمر قاتلاتو”، والذي نشاهد فيه مجموعة من الشباب تشتم وترمي بالطماطم ممثلي مسرحية أو ملحمة عن الحقبة العباسية أو الأموية ربما، وتطالب مغني شعبي بالدخول للغناء لأنها جاءت من أجله، ذلك لأنه يتكلم لغتهم ويجسد الهوية الجزائرية كما يعيشونها كل يوم”. واعتبر الدكتور كساب أن الهوية الوطنية لازالت منذ أربعين سنة بعد ثورة الشباب هذا في فيلم ”عمر قاتلاتو”، تعاني من محاولة تشويه عبر ملحمات تكتب سيناريوهاتها في غرف مظلمة بعيدة عن مخابر البحث العلمي في جامعاتنا المتخصصة في التاريخ الجزائري. وحتى من الناحية الفنية، يقول المتحدث أن الملاحم تأتي ”مملة”، وخالية من أي إبداع أو تميز، لأن كل ما هو فولكلوري لا يرقى لأن يسمى عملا فنيا”. مضيفا: ”هذه الأعمال تنتهي بعد تقديمها، أي بعد ساعتين أو ثلاث، دون أن يكون لها أي وقع فني في البروباغندا الرسمية لأنها لا تعني المواطن الجزائري في شيء”.