نحن نعشق الماضي ونستمتع باستعادة أحداثه، وخصوصًا ما كان منها محزنًا ومفجعًا. ولعل ذلك هو ما يدفعنا لإفساد الحاضر وتحويله إلى ماضٍ لنستمتع به على الوجه الأكمل. أما انتصارات الماضي القليلة النادرة فنمر عليها مرور الكرام وكأنها لم تحدث أو لشكنا في أنها قد حدثت. ولقد انتهينا منذ أيام من الاحتفال بعودة سيناء، كان احتفالاً مقتضبًا أشبه بعمليات تسديد الخانات، ولذلك كان من الصعب أن تعثر على ملامح الفرحة في كتابات المحتفلين. والآن نحن نستعد للاحتفال بذكريات يونيو (حزيران) 1967، الذي بدأ بالنسبة لي قبلها بشهر، وذلك في شهر مايو (أيار) عندما صدرت الأوامر للجيش المصري بالاحتشاد في سيناء. وكان أخي أحمد قد انتهى لتوه من أداء خدمته العسكرية، وتم استدعاؤه للالتحاق بالخدمة العسكرية مرة أخرى. استطاع الإعلام في ذلك الوقت بسرعة فائقة أن يشحن الناس بفكرة الحرب. كان الشارع يغلي حماسًا وفرحة في انتظار دخول تل أبيب. وبدأت بعض الأفكار المتفائلة، ومنها اقتراح بأن تغني السيدة أم كلثوم في حفلها الشهري في تل أبيب. أحد الجزارين غير اسم دكانه إلى جزارة تل أبيب. وتحولت بعض أفكار اليسار إلى أغانٍ من نوع ”ولا يهمك يا ريس من الأميركان يا ريس”. الواقع أن عددًا كبيرًا من المفكرين والمثقفين ما زالوا يغنون نفس الأغنية ولكن همسًا. الواقع أن عبد الناصر - رحمه الله - لم يكن في حاجة لهذه النصيحة، فقد كان موقفه المعلن هو ”الأميركان اللي مش عاجبهم يروحوا يشربوا من البحر، وإذا ما عجبهمش البحر الأبيض، يروحوا يشربوا من البحر الأحمر”. الواقع أن مشكلة العطش السياسي عند الأميركان لم تدفعهم للشرب من أي البحرين. كان النظام بالفعل قد أحرق كل الجسور خلفه فكان من المستحيل عليه أن يتراجع. في ذلك الوقت وسط هذا الحماس الجمعي الملتهب، لم أتصور للحظة واحدة أن كل ما يحدث وكل ما أراه ليس أكثر من مغامرة أقرب للمقامرة، وأننا في حالة الخسارة سنخسر كل شيء وربما نعاني من الخسارة لعقود قادمة. احتمال أننا لسنا جاهزين لخوض حرب مع إسرائيل أمر لم يخطر على بالي. من يصدق أن قيادة سياسية ما تلعب بشعبها وجيشها مثل هذه اللعبة؟ واستبعدت هذا الخاطر على الفور. وفى نهاية شهر مايو قابلت أخي أحمد قبل أن يتم ترحيله إلى الجبهة بليلة. قال لى: أنا أصلاً خدمت في سلاح الخدمات الطبية، وفوجئت بهم يلحقونني بقوات المشاة استطلاع، وأعطوني مدفعًا رشاشًا لم أره من قبل.. وفيه ناس معانا لابسة جلاليب.. نحن مرحلون غدًا إلى العريش. أفزعني ما قاله ولكني طمأنته أن كل الأمور ستمضي على خير وودعته وأنا أشعر بخاطر مؤلم أنني لن أراه مرة أخرى. غير أني استبعدت هذا الخاطر وأرجعته لتشاؤمي التقليدي وخصوصًا في مواجهة المواقف التي تنطوي على أخطار. وفى 5 يونيو 1967 استيقظت على صيحة فرح هائلة في الشارع، لقد قامت الحرب وأسقطنا 80 طائرة إسرائيلية.. ياه.. بكم طائرة إذن هجموا؟ وماذا فعلت بنا الطائرات التي لم نسقطها؟