المهندس المسؤول عن الورشة، خريج مدرسة الصنايع قسم سيارات، في مرحلة الدراسة الابتدائية قمنا برحلة إلى مدرسة دمياط الصناعية، كانت أشبه بالمصانع الأوروبية التي نراها في أفلام هذه الأيام. أهم ما يميز التعليم في ذلك الوقت البعيد هو أن الناس كانت تتعلم فعلا. المدينة صناعية، وكل الناس تعمل، لم نكن قد اخترعنا بعد ما يسمى بالعمالة الزائدة. صدق أو لا تصدق، في أربعينات القرن الماضي، كانت دمياط تصدر الموبيليا والأحذية إلى إيطاليا وفرنسا. الشباب يعملون، وفى أوقات الفراغ عندما يكون لها وجود، يتحولون إلى رياضيين، حمل أثقال أو مصارعة أو سباحة أو مدمني قراءة، وهو الفريق الذي أنتمي إليه. ليس من الضروري أن نشتري الروايات مع أنها رخيصة، كنا نستأجرها من محلات الكُتبية (جمع كُتبي) مقابل خمسة مليمات للرواية الواحدة. غير أن كل الأطفال والشباب كانوا يجيدون السباحة ويحلمون بعبور المانش مثل البطل الدمياطي عبد المنعم عبده الذي انشغلت الصحافة المصرية بقصة زواجه من السباحة الإنجليزية مرغريت فيزر، لقد تزوج البطل المتهور من الأعداء.. ليس هذا فقط، بل من عدوة جميلة وأنثى سباحة.. وبطلة فاتنة مشهورة.. يا دي المصيبة.. يا داهية دقي.. تتزوج من الأعداء يا وغد..؟ ومن الأعداء الحلوين كمان..؟ يا لك من خائن شرير.. نحن هنا نحارب الإنجليز الأعداء وتذهب أنت لتتزوج منهم؟ لنترك بقية الحكاية لفرصة أخرى. تعلمت في الأتوبيس قداسة أشياء كثيرة وأهمها المواعيد، كما تعلمت أشياء كثيرة من بعض السائقين الحكماء وحتى الآن أذكر بالخير الأسطى السعيد السلاموني الذي عملت معه على خط المطرية دقهلية. هذا الرجل كان مصنوعا من إتقان الحرفة وفعل الخير، الأول في مكافأة الإيراد، الأول في مكافأة الوقود، الأول في مكافأة الإكسسوار. كما ترى كانت هناك حوافز تماما كأيامنا هذه، الفرق الوحيد أن الحوافز كانت تعطي مقابل إتقان العمل، أما في أيامنا هذه فأنت تحصل عليها لأنك قمت بتعطيل العمل. أحد يركب سيارتك، وعندما تقوم بإجازتك (أربعة أيام كل شهر) تحصل سيارتك أيضا على نفس الإجازة فتدخل الورشة لعمل صيانة مستعينة بكل ملاحظات السائق طوال الشهر. وبذلك يمكن تحديد كمية الوقود التي يستهلكها السائق طول السنة وكمية الإكسسوار أيضا، هكذا يمكن بسهولة تحديد مكافأته عنها. ثلاث سيارات فقط يعملن على خط المطرية، عندما نكون آخر موعد، يتحول الأسطى سعيد إلى بريد سريع، أمام كل قرية يتسلم من الناس أشياء أو أطعمة أو فلوسا يريدون توصيلها إلى أشخاص في دمياط. وفي المحطة في دمياط يبدأ في توزيع البريد.. خد يا عبده، أمك باعتالك الفرخة المحمّرة دي.. خد يا حاج إبراهيم الفلوس دي باعتها لك الحاج أحمد.. وانت يا معاطي آدي السمن البلدي اللي انت طلبتها من أمك.. وهاتبعت لك الفطير الجمعة الجاية. هل كان يحصل على مقابل لهذه الخدمات؟ نعم.. كان يحصل على ذلك الشعور الجميل بالارتياح الذي نشعر به عندما نساعد الآخرين. عملت مع الأسطى السعيد كما عملت مع ابنه الأسطى محمد بعد ذلك بسنوات في سينما فاتن برأس البر ولكن تلك قصة أخرى.