للمرة الألف يثبت بنيامين نتانياهو أنه حليف العرب الافتراضي من دون علمهم ومن دون أن يبذلوا أي جهد للدفاع عن قضاياهم، وفي مقدمها قضية فلسطين، خصوصاً في العقد الأخير، بعدما بدا التقاعس جلياً وفاضحاً وتحول إلى عادة سيئة يدمن عليها العرب من القمة إلى القاعدة، ليعم التقوقع والانعزال والسقوط في حفرة الحروب العبثية والفتن المذهبية. وربما يبدو الحديث عن هذا الموضوع ثانوياً في خضم تدهور الأوضاع والانشغال بالحوادث المصيرية الدامية التي نشهدها اليوم، لكن التعمق فيها يدل على معالم الطريق وأصل العلل والمحور الذي تدور حوله كل الويلات، علماً أن إسرائيل هي المستغل والمستفيد الأكبر من كل ما يجري. وها هي تقطف ثمار التدخل العسكري الروسي في سورية بعقد صفقة تتيح لها التنسيق والعدوان حين تشاء، ثم تتجه إلى الولاياتالمتحدة للحصول على دعم عسكري ومادي وضمانات سياسية. ورغم هذا الاستغلال، فإنه بات واضحاً أن في كل مرة يتسلم فيها نتانياهو الحكم في إسرائيل، يوقع نفسه ويضعف الكيان الصهيوني ويعرضه للعزلة وكسب العداء وخسارة الورقة تلو الأخرى، كما يعرض نفسه للسخرية كما جرى عندما وقع في شر نياته بتبرئة هتلر من حرق اليهود (الهولوكوست) وإلصاق التهمة بمفتي فلسطين المرحوم الشيخ أمين الحسيني، زاعماً أن الزعيم النازي كان ينوي طرد اليهود من ألمانيا، لكنه - أي المفتي - قال له: ”احرقهم”، ففعل. وجاءت الردود صاخبة ومستنكرة، من اليهود قبل غيرهم، متهمة نتانياهو بتحطيم كل ما بناه الصهاينة من استراتيجية وحملات دعائية ترويجاً للمحرقة واتهام هتلر، فيما سخر منه الآخرون واتهموه بالسخافة والكذب والوصول بالحقد على الفلسطينيين إلى توجيه التهمة إلى مفتيهم. أما الحاج أمين، فقد أهداه نتانياهو بحملته الأخيرة شهادة وهو في عليائه عندما انبرى المخلصون من العرب ومن كل من عرف تاريخه المجيد وقرأ سيرة نضاله، للدفاع عنه وتصحيح الصورة التي كانت تحاول جهات مغرضة رسمها عنه لينصفه التاريخ ويتعرف العرب والفلسطينيون على دوره الوطني والعروبي ونضاله، رغم الظلم الذي لحق به من جانب الإعلام المضلل والأحقاد السياسية والشخصية والعائلية. في ظل هذه البلبلة، استغلت حكومة التطرّف الليكودي الفرصة لتستفرد بالفلسطينيين وتعيث فساداً وقمعاً وقتلاً وتشريداً، إضافة إلى تسريع بناء المستعمرات الاستيطانية في ظل الغياب العربي الرسمي والشعبي عن ساحة النضال، إلا من بعض المبادرات الفردية والتضحيات الجسام للشباب والشابات الفلسطينيين في بداية إشعال نار انتفاضة جديدة. في المقابل، لابد من ملاحظة المتغيرات في مزاج العالم وانكشاف حقيقة الظلم الصهيوني، فقد فتحت العيون على الحقيقة الساطعة التي حاولوا طمسها بالانحياز إلى إسرائيل في كل ما ارتكبته من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان وإقامة نظام ”فصل عنصري” بين الفلسطيني الضحية الذي صُوِّر إرهابياً دخيلاً على أرضه ووطنه، وبين الجلاد القاتل الذي لعب لفترة طويلة دور الحمل الوديع صاحب الحق والوعد الإلهي الذي يحيط به الوحوش من كل جانب لرميه في البحر، مع الزعم بأنه حامي حمى الديموقراطية وممثلها الوحيد في المنطقة. لكن المبدأ القائل ”إنك تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، لكنك لن تستطيع ان تخدع كل الناس كل الوقت” أصبح يلبس إسرائيل في عهد نتانياهو، بعدما انكشف المستور ونفد صبر العالم وزال القناع عن وجه الحمل المزعوم، ليرى مكانه ذئباً مفترساً متوحشاً لا يرتوي من دماء الأبرياء ولا يشبع قتلاً وتنكيلاً وظلماً وإرهاباً. ومع كل مظاهر القوة المفرطة والعنجهية، فإننا نشهد اليوم بداية النهاية لأسطورة التفوق الإسرائيلي والتفرد في السيطرة على العالم وتضليل الرأي العام العالمي، وبالتالي بداية منهجية، وإن تكن طويلة لعزلة إسرائيل. وكل هذا حدث بيد نتانياهو والمتطرفين الصهاينة لا بيد العرب، بكل أسف، فبالكاد نجد تحركاً جدياً ومدروساً أو موقفاً موحداً قوياً لردع إسرائيل ووقف تحدياتها للعرب والمسلمين في فلسطين، وبالذات في القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك. فقد انقضى العهد الذي كانت الساحة الدولية تشهد كل يوم تحركاً فاعلاً لمواجهة كل خطوة إسرائيلية، أولاً بسبب التقاعس، وثانياً بسبب الحروب والدمار وسقوط عواصم عربية رئيسة وانهيار منظومة التضامن العربي نتيجة للخلافات التي تحولت إلى فتن طائفية ومذهبية وعرقية. وما زلت أذكر باعتزاز النشاط العربي المتواصل خلال الثمانينات والتسعينات في العواصم الكبرى والتحرك الدائم للجامعة العربية ومكاتبها، ولا سيما في لندن تحت إدارة الدكتور عمر الحسن وكبار المساعدين وعلى رأسهم الزميلان عرفان عرب وإنعام مالك، بمؤازرة من مجلس السفراء العرب برئاسة الديبلوماسي العريق المرحوم ناصر المنقور، سفير المملكة العربية السعودية، وبدعم مالي ومعنوي من غرفة التجارة العربية - البريطانية في عهد المرحوم عبدالكريم المدرس. هذه التحركات أثمرت نجاحات كبرى مدعومة من الإعلام العربي، أولها كسب كبار الشخصيات الفكرية والسياسية والحزبية لمصلحة القضية وتأسيس مجلس التفاهم العربي البريطاني وفتح حوارات حضارية مع الإعلاميين الغربيين والتصدي للحملات الصهيونية بتحريك القضاء وتفنيد الافتراءات وإقامة معارض ومهرجانات وندوات والتأثير في مجريات الأمور إلى حد حمل رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر على التراجع عن رعايتها لمهرجان ومعرض إسرائيليَيْن في لندن. أما الآن، فقد انفرط العقد وجرى تجميد العمل العربي ومعه الجامعة العربية ومكاتبها المشلولة وتوقف عمل مجلس التفاهم وكل مراكز الحوار، ولم يعد هناك دور يذكر لمجالس السفراء والغرف التجارية، ومات من مات من الأصدقاء وهم فقراء معدمون، واعتزل من اعتزل، وابتعد من ابتعد. وحتى العلاقات الأميركية - الإسرائيلية وصلت إلى درجة التجمد في عهد الرئيس باراك أوباما، على رغم أن الزيارة الأخيرة لنتانياهو كسرت بعض الجليد بسبب ظروف المنطقة والحرب السورية وحل أزمة الملف النووي الإيراني، إضافة إلى ضعف الرئيس الذي لم يتجرأ على المواجهة، خصوصاً بعد الحملة عليه من جانب مستشار نتانياهو، ووصف وزير خارجيته جون كيري بأن عقله مثل عقل طفل في الثانية عشرة. لا شك في أن حوادث المنطقة وصعود إيران وروسيا للعب دور فاعل دفعت نتانياهو إلى المسارعة إلى إجراء ترميم شكلي للعلاقة المتدهورة مع أوباما الذي لم يبق من عمر رئاسته سوى سنة واحدة، ما يعني أنه من المستبعد تحريك قضية الشرق الأوسط وتحقيق حل الدولتين. هذا المشهد البانورامي لا يعني الاطمئنان إلى الأحوال، بل من الواجب دعم المتغيرات الإيجابية بتحركات عملية وتركيز الضغط بالسياسة والإعلام والاقتصاد لإثبات خطورة عدم إحلال السلام على مصالح العالم وتزايد حالات التطرّف والإرهاب. ومازلت أذكر رد وزير بريطاني بارز سابق عندما سألته عن مصير مبادرة أوروبية كانت ستعلن قبل ربع قرن، فضحك ملء شدقيه (وهو على فكرة يهودي) وقال: ”لا تأملوا خيراً طالما أنكم لا تضغطون علينا، ونحن نتمنى عليكم أن تفعلوا، لنتمكن من مواجهتها (إسرائيل) ومطالبتها بالكف عن التعنت لأن مصالحنا مهددة”. وأردف قائلاً بسخرية: ”لقد تعودنا أن نزور الدول العربية ونبحث مع القادة في التطورات، ولا نسمع إلا شكاوى من دولة على دولة، وعندما نخرج يُقال لنا ونحن على أبواب القصور (بالحرف الواحد): شوفوا لنا حلاً لقضية فلسطين”. وهنا لابد من الإشارة إلى سلسلة حوادث ومواقف عالمية لافتة تكشف أن انتهاكات إسرائيل تحققت بيد نتانياهو لا بيد العرب، وفقا لمبدأ: ”مدوا له الحبل ليشنق نفسه به”. ومن هذه التطورات: - رفع العلم الفلسطيني أمام مبنى الأممالمتحدة بعد قبول عضوية فلسطين في الجمعية العمومية ومنظماتها وآخرها المحكمة الجنائية الدولية. - مقاطعة الاتحاد الأوروبي للبضائع المستوردة من المستوطنات الإسرائيلية. - توقيع مئات من أساتذة الجامعات البريطانية والأوروبية على مذكرة بقطع العلاقات وعدم التعاون مع الجامعات الإسرائيلية والأكاديميين ووقف التبادل العلمي وإلغاء الزيارات. - مشاركة آلاف الغربيين في تظاهرات حاشدة ضد إسرائيل ودفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني. - رفع دعاوى جزائية على رموز إسرائيل السياسية والعسكرية. - تنظيم تظاهرة يهودية تجاوز المشاركون فيها 150 ألفاً، بينهم آلاف الحاخامات ضد وجود إسرائيل، فيما معظم الإعلام العربي غائب أو لم يهتم بالحدث. - تنظيم تظاهرات مماثلة في شيكاغو تحت شعار Jewish voice for peace، أي صوت يهودي من أجل السلام، للمصالحة مع الفلسطينيين. ومن أروع الدلائل على التحول في النظرة والجرأة في التصدي لإسرائيل وعدم الخوف من عقاب عصاباتها، ما جاء على لسان الصحافي الإسرائيلي غدعون ليفي، عضو مجلس تحرير صحيفة ”هآرتس” في عقر دارها، أي في مقر اللوبي الصهيوني، وفضح فيه العقلية الإسرائيلية وعقدة التفوق وحال إنكار الواقع وغسل الأدمغة لتكريس مزاعم ”شعب الله المختار”، والادعاء بأن الإسرائيليين هم ضحايا العرب وأن من واجبهم قتل الفلسطينيين وطردهم. وهذا غيض من فيض التحولات، حتى داخل إسرائيل، حيث بدأت الشخصيات المعادية لليكود بالتحرك مجدداً لتصحيح الوضع. لكن هذا الهجوم لا يكفي إذا لم يتحرك العرب بسرعة لدعم الشعب الفلسطيني المنتفض على الظلم مجدداً، والضغط على العالم، والولاياتالمتحدة خصوصاً، لوقف الجريمة الكبرى وإيجاد حل عادل قبل فوات الأوان.