عندما زرت بوركينا فاسو سبتمبر الفارط، يومين قبل محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها ”الحرس الرئاسي” الموروث عن الرئيس السابق بلاز كامباوري، كنت أستبعد أن يضرب الإرهاب هذا البلاد، رغم مظاهر الفقر، ورغم الخلافات السياسية الموروثة عن عهد الرئيس الذي أسقطته الانتفاضة الشعبية سنة من قبل. إلا أن العملية الإرهابية التي ضربت واڤادوڤو العاصمة الفقيرة، مساء الجمعة، والتي تبنتها القاعدة في بلاد المغرب، أعادتنا إلى الواقع الذي تعانيه منطقة الساحل. فبوركينا فاسو هي قبل كل شيء جارة لدولة مالي مرتع الإرهاب وحركة ”المرابطون” الإرهابية التي تروع منطقة الساحل منذ سنوات. فما إن خرجت البلاد من مرحلة سياسية صعبة تخللتها محاولات انقلابية عدة على مسيري المرحلة الانتقالية، بانتخاب رئيس شرعي في نهاية نوفمبر الماضي، حتى ضرب الإرهاب قلب العاصمة باستهداف رمزين من رموزها، باستهداف فندق سبلانديد الذي يرتاده الأجانب ومطعم كابوتشينو، وسط العاصمة الذي يمتلكه لبنانيون ويعد أحد أهم المطاعم في هذه العاصمة الفقيرة، حيث يتجمع أيضا زوار هذا البلد من جنسيات مختلفة، وهكذا تحط المصائب التي تضرب دول الساحل الإفريقي في العاصمة البوركينابية، ولم تبق العمليات الإرهابية حكرا على الشمال المحاذي لمالي، حيث قتل ثلاثة رجال درك أكتوبر الماضي، وها هو يضرب اليوم قلب العاصمة الفقيرة التي تحاول التعافي ببطء من مرحلة حكم بلاز كمباوري، وما ألحقته بالبلاد من مآس ومن جرائم قتل طالت الرئيس الأسبق توماس سانكارا. لن أضيف شيئا لما يعرفه الجميع من أن هذه الجريمة الأخرى التي تضرب إفريقيا هي نتيجة للفوضى الليبية - التي سبق وحذرت منها الجزائر - لكن لا أحد أصغى لهذه التحذيرات، وخاصة فرنسا، التي تبكي اليوم مأساة واڤادوڤو، بعدما ادعى الإليزيه أمس أنه يقدم يد المساعدة للجيش البوركينابي في مواجهة الإرهاب، وأن الرئيس هولاند يقدم دعمه للرئيس كامباوري! لا أدري إن كانت المساعدة التي ستقدمها فرنسا إلى بوركينا فاسو، هي من النوع الذي قدمته منذ ثلاث سنوات إلى مالي، عندما قادت عملية سارفال لطرد الإرهاب من ڤاو وتومبوكتو، وشمال البلاد، ومع ذلك ما زالت مالي فريسة لعناصر القاعدة ولقوافل تهريب السلاح والمخدرات ومرتعا لرجال دروكدال. ثم في ماذا تختلف الجماعات الإرهابية التي قتلت، أول أمس، ما لا يقل عن 30 ضحية في بوركينا فاسو، عن نظيراتها في فجر ليبيا وعن أمراء الموت في بلاد القذافي الذي قادت فرنسا ”الناتو” للإطاحة به وإغراق المنطقة، من مصر إلى تونس مرورا بليبيا ومالي وحتى الجزائر، بهجمات إرهابية دورية لا تقل دموية عن عملية أول أمس، بقلب العاصمة بوركينابية، بل أغرقت حتى فرنسا نفسها في جحيم الإرهاب، وما عملية 13 نوفمبر الفارط في قلب باريس إلا نتيجة لهذه الظاهرة العابرة للقارات. وباريس اليوم تعرف جيدا مدى الثمن الذي دفعته أمنيا واقتصاديا!! حدة حزام ********* صدمة في نهج الڤليسين!
... وهنا تفتقت قريحته للحديث من جديد، بعد صمت القبور الذي خيم على طول الرحلة من عين الحمام إلى العاصمة. ”يعني أن آيت أحمد حمل سي مولود إرثه، لأن الرسالة كانت واضحة، أن يشرف مولود حمروش على دفنه وأن يلقي كلمة. أعتقد أنه نعم الاختيار، ليس لأن حمروش أهل لهذا الحمل فهو لا يحول ولا يتحول حسبما فهمت من كلمته التي ألقاها إثر الصلاة على روح الفقيد، وإنما أيضا سيخرج بهذا التكليف، الحركة من النظرة الجهوية التي سجنت فيها. حمروش ليس قبائليا بالمعنى الذي تروج له منطقة القبائل، هو قبائلي من القبائل الصغرى مثلي، أعرف أن هذا الحمل سيكون ثقيلا عليه، وسيكون هناك من يعارض هذا، لكني واثق إن قبل رئاسة الجبهة، أو حتى رئاستها الشرفية سيكون في مستوى الحمل، وآيت أحمد يدرك جيدا هذا، فقد خبر مثلي معدن الرجل”. كان هذا كلام الرئيس معلقا على علاقة سي المولود بجبهة القوى الاشتراكية وبزعيمها التاريخي. ”نعم! - يرد السائق - لكن حمروش سبق ورفض رئاسة الجبهة لما عرضها عليه آيت أحمد عند استقالته بسبب الكبر والمرض من على رأس التنظيم”! تدخل ”الدي أس” السوداء شارع البشير الإبراهيمي مرورا بشارع سويداني، وقد خيم الظلام على المدينة، فالأنوار شاحبة، وأول ما جلب انتباهه، كل هذه المتاريس على مدخل الشارع وزحمة المرور، رغم أن اليوم عطلة الأسبوع وأول يوم في السنة. مرت ”الدي أس” بصعوبة تحت نظرات رجال الشرطة المريبة، لكن لا أحد أمر بتوقفها، ربما تفاديا للمزيد من الزحمة. ”ما كل هذه الشرطة وهذه المتاريس، ألم يقولوا إننا قضينا على الإرهاب؟ فمن ماذا يخافون؟”. وتزداد حيرته وهو يلاحظ هذه المباني الجديدة البيضاء على جانبي مدخل شارع الإبراهيمي وأعداد رجال الشرطة المدججين بالسلاح أمامها. يلاحظ السائق حيرته ويسارع للتهوين عليه ”كل هذه المباني هي للسفارة الأمريكيةبالجزائر، أخذوا كل هذه المساحة القريبة من مباني سوناطراك وكأنهم ”يؤممون” أملاكها، مثلما وضعوا أيديهم على ثرواتنا بالجنوب، لم يبق شيئا اسمه التأميمات!”. ”يبتسم الرئيس ابتسامة حزينة، يتنهد عميقا: ”آه! بترولنا أحمر، أحمر من دماء الشهداء”. ويبقى يردد هذه المقولة التي تغنى بها الجزائريون سنوات، مثلما يتغنون بنشيد ”قسما”، تلك المقولة التي تزرع السرور في النفس، والجزائر مقبلة على نزع استقلالها الاقتصادي بعد أن ورطتنا اتفاقيات إيفيان في استقلال منقوص، وتركت كل ثرواتنا وموانئنا بيد الاستعمار، وحتى الجنوب الذي رفضنا فصله عن الشمال، بقيت أراضيه وسكانه مسرحا للتجارب النووية. عبارة قالها بومدين في معرض رده على فرنسا، التي وصفت البترول الجزائري بأنه أحمر، أي من نوعية رخيصة، حتى تؤثر على تسويقه في الأسواق العالمية! ”أتذكر جيدا هذا - يلاحظ السائق - يومها قاطعت فرنسا شراء منتوجاتنا الفلاحية، أتذكر كيف أرجعت صناديق البرتقال والفواكه الأخرى، وقاطعت استيراد الخمر. أتذكر كيف كنت أنا وشقيقتي نتزاحم مع سكان الحي، لشراء صناديق برتقال ومندرين من النوع الرفيع مقابل دينارين للصندوق، لا زلت أتذكر طعم ذلك البرتقال، ولون خشب الصناديق الناصع البياض، بياض لم أر مثله، وما زلت أتذكر مذاق ذلك البرتقال حتى اليوم كلما تناولت هذه الفاكهة، تماما”. ويضيف ضاحكا ”لما قرأت رواية مارسال بروست، وهو يصور كيف أن مذاق فطيرته وهو يغمسها في قدح الشاي، يحمله إلى الطفولة، لتطفو صور وروائح على سطح الذاكرة. نبهني بروست فتوقفت طويلا أمام جملته الطويلة، إلى ذلك المفعول الذي يغمرني وأنا أرتشف عصير البرتقال أو عند التهام ثماره! يا لها من صور عجيبة، نعم للمذاق ذاكرة!!”. استدارت السيارة إلى اليمين، لتدخل منحدرا ضيقا، يتذكر الرئيس المكان، لم يتغير منه سوى المباني المرتفعة التي حلت محل عناقيد زهرة الڤليسين البنفسجية الجميلة! وعلى بعد أمتار يأمر السائق بالتوقف أمام مبنى لم يعرفه الرئيس للوهلة الأولى، فحتى هنا ارتفعت الأسوار، لتخفي الحديقة التي كانت جميلة فيما مضى، وينتبه للكتابة على الحائط أمام ثاني باب لهذه الفيلا الفسيحة ”سفارة المملكة…”. كادت صرخة مدوية أن تقتلع أنفاسه ”ما هذا، هل وصلت أموال النفط إلى هنا، هل باعوا بيتي بالبترودولار؟!”. يبقى السائق صامتا، فهو لا يملك إجابة، لم تعد له صلة بعائلة الرئيس، يحاول أن يهون عليه لكن دون فائدة. فقد دخل العائد في نوبة غضب غير مسبوقة، وصرخ ”هل وصلت الخيانة لتشمل حتى أقرب الناس إلي؟ ألا يتذكرون خطاباتي؟.. ليست سوى برميل كبير من البترول وشكارة كبيرة من الدولارات!”. ”يبتسم السائق ويذكره أن العالم تغير خلال كل هذه السنوات، وليس عيبا أن يتغير أهل بيته أيضا، إنه اقتصاد السوق، إنه زمن يكذب الرجال، ثم هذا لا يعنيك، أنت لم تعد من هذه الحياة والبيت ليس بيتك، بل بيت من يسكنه، تماما مثل الرئاسة، ليس بها لا مكتب لك ولا ملفات، وعليك أن تقبل هذا الواقع، لقد غبت طويلا، بل ذهبت من غير عودة، والغائبون دائما مخطئون على حد المثل!”. فعلت كلمات السائق مفعولها في نفسية الرجل العائد، انتبه إلى أن مهمته التي عاد من أجلها ليست مهمة خاصة، فهو الذي لم يجر وراء المال والأملاك في حياته، لن يهمه أمر الفيلا التي كانت تقطنها المرحومة والدته ولا مصيرها! ”هيا! يأمر الرئيس، لنعد إلى الرئاسة!”. ”لا! يرد السائق، بل سأذهب إلى بيتي أنا بحاجة إلى قسط من الراحة وأخذ حمام وأكل ساخن مللت من أكل الساندويتشات والنوم في السيارة منذ عودتك، أنا بحاجة إلى الاطمئنان على عائلتي، وتغيير ثيابي. هيا نذهب إلى بيتي!”. - يتبع -