كشفت فيضانات غرداية مدى التخلف الذي يعانيه العلم في الجزائر.. فالعواصف والأمطار لم تعد من الغيبيات بل أصبح التنبؤ بها بمثابة العلم الدقيق الذي لا يقبل الخطأ.. وقد رأينا كيف أصبحت أمريكا تحدد بدقة الأعاصير ودرجة هيجانها، وتجلي السكان من أخطار كوارث محتملة ودقيقة التنبؤ.. لكن عندنا ما يزال الإعصار من علم الغيب لا يعلمه إلا الله..! وماذا تفعل الأرصاد الجوية إذا لم تتنبأ بحجم كثافة السُحب و درجة المطر..؟! هل دور الأرصاد الجوية هو القول للناس أن الشمس ستطلع هذا اليوم أو أنها ستختبئ خلف السحب التي لا نعرف ولا تعرف الأرصاد الجوية حجم ودرجة إمطارها؟! قضية غرداية رغم بساطة الكارثة قياسا بالكوارث الكبرى المتوقعة في الجزائر، عجزت أمامها السلطات العمومية! فماذا يعني أن تحتار الحكومة كاملة في معالجة 9 آلاف أسرة بدون مأوى بسبب فيضانات محدودة الأثر في المكان والزمان! وحدثت في فصل معتدل لا يضع السكان تحت طائلة البرد والحرّ القوي؟! وماذا يعني أن يهدم المطر والسيول 600 مسكن؟! لقد قالت الحكومة أنها عالجت موضوع الفيضانات بالسرعة المطلوبة.. وعاد الكهرباء والماء والغاز وحتى الهاتف للعديد من البيوت بصورة قياسية.. وهو أمر جيد.. لكن الأكيد أن الكارثة لم تكن بذلك الحجم الذي لا يمكن التحكم فيها بسرعة..! والمشكلة أن الهيئة الوطنية للكوارث الطبيعية ما تزال تترنح في عملها ..! وهي عاجزة عن معالجة فيضانات محدودة في الزمان والمكان مثل فيضانات غرداية فما بالك لو واجهت البلاد كارثة جديدة مثل كارثة غرداية واستمرت رداءة الأحوال الجوية لأيام وليس لساعات! لقد علّق أحد المواطنين على الطريقة الكاريكاتورية التي تعالج بها الحكومة مسألة فيضانات غرداية بقوله: هذا أمر متوقع من حكومة وزراؤها يجدون صعوبة في حل مسألة ذهابهم إلى العمل من محمية نادي الصنوبر الحكومية إلى مراكز عملهم في الوزارات.. حيث يجند أكثر من 200 شرطي على طول الطريق الرابط بين قصر الأمموالجزائر العاصمة.. والغرض ليس الحماية الأمنية للوزراء من الإرهاب بل الغرض من هذا العدد الهائل من الشرطة هو ضمان الطريق السالك لسيارات الوزراء من أجل الوصول في الوقت إلى مراكز عملهم ! والمضحك في الموضوع أن سيارات الوزراء وسيارات الحراسة الخاصة أصبحت تصطدم بسيارات أعداد الشرطة المكلفة بحراسة الشريط المخصص لسير الوزراء، وقد نشبت خلافات بين حراس الوزراء وبين شرطة حماية طريق الوزراء حول موضوع من له الأحقية في المرور في الشريط؟ هل الشرطة أم حراس الوزراء؟! والشريط المروري عندما أقيم في الطريق السيار الواقع جنوب العاصمة كان الهدف منه هو مرور سيارات الإسعاف فإذا به يتحول إلى شريط مخصص للوزراء ورجال الدولة وبدرجة أقل للشرطة ودوريات الأمن..! والمصيبة أن بعض الموظفين السامين ممن يسكنون المحمية الحكومية في نادي الصنوبر يستخدمون هم أيضا سياراتهم الفاخرة كوسيلة لاستعمال ذلك الشريط المخصص للوزراء وسيارات الإسعاف والشرطة؟! وقد يتساءل القارئ عن الهدف من ربط كارثة غرداية بموضوع المرور بين قصر الأمم وقصر الحكومة.! والجواب: لأن الوزراء الذين يعجزون عن تنظيم المرور في الطريق الذي يسلكونه كل يوم نحو العمل والعودة منه كيف يمكن أن ينجحوا في تنظيم عمليات إسعاف للمنكوبين في غرداية، حتى ولو كانت هذه النكبة صغيرة وقليلة بالقياس مع إمكانيات البلد.! بالنظر إلى ما يمكن أن نتصوره من كوارث في بلد يقع في حزام الكوارث.! نعم البلد الآن بلا موضوع يمكن أن تشتغل عليه الحكومة والصحافة والسياسة والأحزاب، ولهذا فإن كارثة صغيرة مثل كارثة غرداية.. جعلت الصحافة تحولها إلى موضوع وطني كبير وتغرق الرئاسة والحكومة وكل أجهزة الدولة في فنجان مياه تدفق في وادي ميزاب وترك بعض الأوحال في الشوارع؟! ماالذي يجعل الأحزاب السياسية تستثمر في كارثة صغيرة مثل كارثة غرداية؟! لو كانت الحياة السياسية في البلاد مفتوحة لما اتجهت الأحزاب إلى الإستثمار في الكوارث؟! ولو كانت الحياة السياسية نشطة لما احتاجت الصحافة لأن تحول اللاأزمة في غرداية إلى أزمة وطنية؟! ولو كان للحكومة ما تشتغل به لما عطلت عملها وراحت تنساق وراء ما ذهبت إليه الأحزاب "الخلاّطة" والصحافة المغرضة ! إن مسألة الفراغ السياسي الإقتصادي الأمني الذي تعيشه البلاد لم يعد مجرد أزمة يمكن العيش معها أو التعايش بها.. بل أصبحت قضية تهدد استقرار وتطور البلد! لقد غرقت الحكومة في شعبة غرداية.. ليس لأن الشعبة كبيرة وفيضانها كان خارج السيطرة بل غرقت الحكومة لأنها لا تملك أي وسيلة من وسائل النجدة لمواجهة حتى موضوع السباحة في شعبة ! نعم نقولها مع رئيس الحكومة أحمد أويحي..البلاد تتوفر على إمكانيات هائلة..أكبر بكثير من حجم مشاكلها.. لكن مشاكلها الآن أكبر من رجالها ومن إرادة رجالها ومؤسساتها.. وتلك هي المعضلة التي تواجه البلاد منذ ربع قرن..! وما كانت البلاد تحتار في مواجهة عاصفة محدودة مثل عاصمة غرداية لو كانت تتوفر فعلا على رجال يديرون مؤسسات بها الإمكانيات التي هي الآن بين أيدي هؤلاء الغارقين في فنجان غرداية..؟!