تتجلى صور الوهم والزيف عند اغلب شبابنا، عندما يصطدمون ببعض العراقيل في المجتمع كالبطالة والمشاكل الاجتماعية المتعددة المرتبطة بالحياة المعيشية، وتجتمع مخيلاتهم حول فكرة وحيدة مفادها الهجرة من الوطن نحو المهجر، دون أن تكون هناك أهداف محدّدة ومعرفة واقعية لما ينتظرهم في واقع سمعوا عنه من نماذج عايشت التجربة بنجاح أو شاهدوه افتراضا على وسائل الإعلام، لتبدأ المعاناة مباشرة بعد المغادرة، وتصبح حياتهم اقرب إلى الجحيم من الجنة الزائفة التي كانوا يتصورونها في أذهانهم فيدخلون في مخاض عسير وعملية مضنية بغية التأقلم مع ظروف تلك البلدان، تنتهي في اغلب الأحيان بالتخلي والتفسخ عن القيم الدينية والوطنية والأخلاقية التي تربوا عليها، أوالانطواء على أنفسهم، فيصبحون في حركة استهجانية مليئة بمظاهر نبذ الآخر ويتجرعون مرارة العنصرية في كل مكان في المهجر، ليفكروا في آخر المطاف إلى العودة إلى أحضان أهلهم وأحبابهم، "السياسي" فتحت الملف لمعالجة هذا الموضوع مع خبراء في الاجتماع وفي الاقتصاد، حول أسباب الهجرة العكسية التي حوّلت أنظار العديد من شباب المهجر، للعودة نحو الوطن، متجاوزين المرحلة الحرجة التي تعيشها أوروبا، واعتبروا هذه الظاهرة الجديدة نابعة عن إفرازات اجتماعية تعيشها أوروبا، والاستقرار الاقتصادي والأمني الذي تعيشه الجزائر، والذي تفتقده العديد من الدول في العالم العربي حاليا شباب عائدون من المهجر يسردون معاناتهم في الجنة الزائفة يعتقد اغلب الشباب في صورة نمطية خاطئة، ممزوجة بالوهم الخاطئ أن المهجر جنة الله في الأرض، وبالتالي، يسعى كل منهم إلى امتطاء زوارق الموت مغامرين نحو المجهول، أو الحرص على الظفر بتأشيرة تضمن لهم العبور إلى الطرف الآخر من المتوسط، دون أهداف حقيقية واضحة سوى أنهم كرهوا المعيشة في البلاد-هذه العبارة سرعان ما تتزعزع بمجرد الاصطدام بالواقع المعيش لهم في الجنة وتصبح العودة إلى الوطن، الحل الوحيد المريح بعد انقشاع غمام الوهم الذي كانوا يعيشون فيه قبل الهجرة، التقت "السياسي" عدة شباب جزائريين عائدين من المهجر، وأكد العديد منهم على الحياة القاسية والمزرية التي عاشوها في أوروبا، بداية من انتشار البطالة باعتبارهم لا يملكون بطاقات إقامة، إضافة إلى أنهم يتسولون بحثا عن أي عمل يجدونه بأجور زهيدة. حلم يتحول إلى كابوس أعرب مزيان طريق، من ولاية تيزي وزو المعاناة الحقيقية التي يعانيها المغترب الجزائري، سواء ظفر ببطاقة إقامة أو لم يحصل عليها، حيث قضى 8 سنوات في فرنسا، قائلا انه كان يحلم كأي شاب جزائري لم يحصل على منصب شغل، بالهجرة إلى أي بلد في أوروبا، فكانت لي الفرصة أن هاجرت إلى أوروبا، كنت في البداية سعيد بتواجدي في المهجر، حتى أن الأشياء والمناظر والمظاهر والحركة الجديدة الموجودة في المجتمع جعلتني انبهر في أول وهلة، وسرعان ما تحول هذا الانبهار بعد مرور الزمن من تواجدي في الغربة إلى معاناة حقيقية، بعد أن اصطدمت بالواقع الحقيقي الذي يعيشه المواطن الفرنسي، كانتشار البطالة، وروتين المادية الطاغي على حياة هذا المجتمع، كما اكتشفت أن معاش 200 يورو لم يعد تكفيني في فرنسا لأسد مختلف حاجياتي، وتحولت فرنسا والمهجر الذي كنت قد تخيلته في رأسي قبل الهجرة إلى كابوس حقيقي، رغم أنني املك بطاقة الإقامة إلا أن مجرد حصولي على أوراق لم يشفع لي بأن اشعر بالراحة في هذا البلد.
ما ترفدك غير بلادك في روى أكد جمال من بوزريعة تفاصيل حياته التي قضاها في انجلترا وبالضبط في مدينة لندن، حيث غادرت الجزائر في سن 25 سنة إلى فرنسا، ومن ثمّ انتقلت بعدة فترة وجيزة بأوراق مزوّرة إلى برطانيا، أين عملت عند بعض أولاد لبلاد هناك، لتتغير حياتي بعد زواجي من بريطانية من أصول مسيحية، تحولت حياتي إلى جحيم حقيقي باعتبار أن عاداتهم وتقاليدهم تختلف عن المجتمع الجزائري، مما جعلني أحس بغربتين، غربة البلد وغربة الزوجة، ورغم نجاحي في العمل وفي الحصول على بطاقة الإقامة، لكنني نادم على شيء فقط أنني تزوجت من بريطانية، وواصل كلامه بصعوبة والدموع تملأ عينيه عندما أعود إلى الوطن وألتقي بأبناء الحومة، يعتقدون أنني في قمة السعادة لأنني في المهجر، دون أن أطلعهم عن معاناتي الحقيقية، في بلد اعتقدت لأول وهلة انه السعادة بعينها، والشيء الذي يحز في نفسي إلى غاية اليوم أنني لم استقر بعد في حياتي الزوجية بعد طلاقي من البريطانية، وقد بلغت من العمر 42 سنة، بينما أصدقائي وأبناء الحي الذي اقطن فيه، يتمتعون بحياة بسيطة ورائعة مع أبنائهم بينما لازلت ابحث عن زوجة لأبدأ حياتي من جديد، وقال جمال سأعود للاستقرار إلى الوطن من اجل بناء حياة جديدة بعدما أثقلت كاهلي الغربة المرة.
حنطابلي ل"السياسي": المهاجرون يحنون إلى القيم الوطنية التي تسلبها إياهم علمانية أوروبا أكد من جهته يوسف حنطابلي، دكتور في علم الاجتماع، أن ظاهرة الهجرة تقلصت بأعداد هائلة في السنوات الاخيرة التي عرفت فيها الجزائر بحبوحة مالية معتبرة وتوفير العديد من مناصب الشغل ووجود فرص حقيقية للاستثمار داخل الوطن، أثّرت كثيرا على نسبة الهجرة غير الشرعية في الداخل وحتى المهاجرين الجزائريين في اوروبا هذه الاخيرة التي تعيش في أزمة مالية خانقة، وأضاف المتحدث أن هناك حركة خير عادية تم تسجيلها بالنسبة لعدد كبير من رجال المال والأعمال حتى المثقفين، الذين يفضّلون العودة في هجرة معاكسة نحو الوطن، وأوضح المتحدث الأسباب الحقيقية التي جعلت فئات عديدة من المجتمع خاصة الشباب في فترة ما تفكر في المغادرة، حيث ربطها بمفهوم المواطنة التي تتجسد في العديد من المعاني والعناصر على غرار الحرية في كل شيء وتوفر مناصب مناصب شغل دائمة، هذه الاخيرة متوفرة في اوروبا قبل الأزمة المالية، على حد قول المتحدث، والتي يرى فيها المتتبعون في الكواليس غير الرسمية أن اوروبا حاليا في مرحلة مخاض عسير تتشكل فيها مقومات العودة إلى أصلها، وهذه الفكرة المطروحة بعيدا عن الإعلام والرأي العام، أصبحت تهدّد الوطنية للمهاجرين الذين يتعرضون لاستنزاف حقيقي لهذه القيمة بمجرد الدخول إلى اوروبا، حيث تكثر مظاهر العنصرية وتتلاشى قيم الانتماء إلى الوطن الذي تم هجرانه، وأشار حنطابلي إلى أن هذا الشعور في نفسية الفرد المهاجر هو حالة من الارتباك الاجتماعي وبالتالي يحن للرجوع إلى الوطن، الذي يرى فيه الحاضن لكل آماله وآلامه عكس ما كان يعيشه في اوروبا وقال المتحدث في نفس السياق، أن الحركة العكسية للهجرة التي يتم ملاحظتها من طرف مهاجرينا نحو الوطن، تبقى تحمل عناصر النوعية لا الكمية فقط، حيث أن أغلبية المثقفين والجامعيين والطلبة، يفكرون في العودة إلى الوطن بمجرد أن يتم ضمان وضعية مريحة، بالنسبة للمعيشة والشغل وأكد دكتور علم الاجتماع، أن الاستقرار الذي تعيشه الجزائر حاليا، في ظل الأزمة المالية التي تعيشها اوروبا، والحراك السياسي الطارئ في بعض الدول العربية، سيجعلها المحطة المناسبة التي تحاط عليها الأنظار، لانتقال رؤوس المال والأعمال وتعزيز فرص الاستثمار، من مختلف الدول نحو الجزائر، باعتبار أن الاستقرار مهم جدا وهو البيئة الخصبة التي تضمن قدوم الاستثمارات الأجنبية والعربية للجزائر، وهذا سيؤثر بدوره على الهجرة نحو اوروبا أو العكس بالنسبة لشبابنا دعدوش: ظاهرة الهجرة في أصلها شبيهة بحركة الهيبيز التي ظهرت نهاية الستينيات وسرعان ما تلاشت من أذهان الشباب أوضح وائل دعدوش، الأمين العام للجمعية الوطنية للتضامن والقضاء على الآفات الاجتماعية، أن الجمعية عملت مرارا وتكرارا من اجل تقديم نصائح مهمة للشباب في هذا الإطار، على أن الحلول موجودة في الجزائر وليس في بلدان ما وراء البحر، حيث نشهد حاليا حركة عكسية للهجرة من طرف شبابنا الذين غادروا للبحث عن العمل والبحث عن ذواتهم، في المقابل، تراجعت نسب الهجرة السرية الحرقة في الجزائر، نحو أوروبا وهذا يعكس تماما الوعي الذي أصبح الشباب الجزائري يتمتع به، حيث اكتشف اغلب المهاجرين الجزائريين في أوروبا وفرنسا بالتحديد زيف الصورة النمطية المأخوذة عن الدول الأوروبية، والتي بدأت تتصدع في أذهان شبابنا كما أن الصورة المزيّفة التي كانوا يعيشونها، أصبحت واضحة لتبقى الهجرة تستهويهم في السياحة والعمل أكثر من العيش في أحضان مجتمع بعيد كل البعيد عن القيم التي يتمتع بها ديننا ومجتمعنا. وأضاف دعدوش أن السبب الذي يدفع شبابنا للتهافت على الهجرة يكمن في العمل والراتب المغري، لكن حين تنقشع غمامة تلك الأفكار والتخيلات، يكتشفون في الأخير أن مجتمعهم يعاني من بطالة خانقة مثلما تعاني منه العديد من الدول في العالم وما الأزمة المالية التي تعصف بهذه الدول سوى القطرة التي أفاضت الكأس في العديد من الدول الأوروبية، ويرى وائل دعدوش في ظاهر الحرقة والهجرة التي يتغنى بها الشباب الجزائري في كل مرة في حياتهم اليومية، شبيهة بحركة الهيبيز Hippies التي ظهرت في أواخر الستينيات في الولاياتالمتحدةالامريكية، والتي استقطبت العديد من الشباب في جميع العالم، لتتراجع سريعا كما ظهرت ونفس الفكرة يمكن تطبيقها على ظاهرة الرغبة في الهجرة من الجزائر، والتي لا تعدو سوى نزوات شباب أثّرت فيها مرحلة المراهقة من جهة، والفراغ القاتل الذي يجتاحهم من جهة أخرى، بسبب البطالة، وأشار المتحدث إلى أن هناك تقارير تقول أن آلاف الشباب لم تعد اروربا اهتمامهم الأكبر بعد توفر مناصب شغل مهمة، من ناحية الاستقرار العائلي والحفاظ على القيم التي يتمتع بها المجتمع الجزائري، بسبب التفسخ الذي يتعرض له الشاب الجزائري بمجرد أن تطأ قدمه أوروبا وأضاف المتحدث أن الجزائر أصبحت تعيش وضعا أفضل وأحسن من ذي قبل، جعل المهاجرين الجزائريين يفكرون في العودة إلى وطنهم، والاستقرار والاستثمار فيه، بنقل خبرتهم التي اكتسبوها في مختلف مجالات العمل في أوروبا وعبر مختلف الدول في العالم سراي: الجزائر تعيش ظاهرة جديدة للهجرة أوضح الخبير الاقتصادي عبد المالك سراي، أن الجزائر تعيش ظاهرة هجرة جديدة من مختلف الدول التي نتقاسم معها الحدود أو حتى البعيدة عنا إقليميا، وكذلك الجالية الجزائرية المتواجدة في العديد من الدول الأوروبية والعربية، لتصبح محط أنظار الرعايا الأجانب الذين يرون في الجزائر حاليا على أنها مكان استراتجي للاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في العالم، وأضاف المتحدث أن اغلبية الجالية الجزائرية في أوروبا تفكر في العودة، بسبب التغيرات الايجابية التي طرأت على الجزائر على مستوى العديد من الميادين والمجالات، وبسبب تكوين الخلية الجزائرية، التي يرى فيها المتحدث، حسب تقرير قدّمته الأممالمتحدة، على أنها اكبر الخلايا العائلية انسجاما في العالم، بمعية الخلية العراقية، ويؤكد المتحدث على أن ترابط المجتمع الجزائري، جعله لا يفقد الصلة التي تربطه بوطنه، وبالتالي الهجرة العكسية التي تشهدها الجزائر تصب في هذا الإطار، كما ارجع المتحدث أسباب هذه الهجرة العكسية للجالية الجزائرية نحو الوطن، إلى الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي تعيشها العديد من الدول إقليميا ودوليا، وتحسّن الظروف المعيشية في الجزائر مؤخرا