المتجول بمدينة القليعة في تيبازة، وبالتحديد بكل من حيي كركوبة وبن عزوز، يلفت انتباهه كثرة محلات بيع الأثاث، حيث تشد انتباه كل ناظر وتبهر الأبصار لجمال نماذجها وتنوع أشكالها، إذ تعدّ صناعة الخشب من أعرق الصناعات التقليدية والحرفية المتوارثة أبا عن جد، والتي لا يزال أبناء المدينة يمارسونها بحذاقة، الأمر الذي جعلنا نقصد هذه المحلات لنتمتع بجمال الإبداع الذي تتفنن الأيادي الذهبية في صناعته. عندما تتحوّل مشتقات الخشب إلى مصدر إلهام وإبداع حرفي حطت السياسي رحالها بمدينه القليعة وبالضبط بحيي كركوبة وبن عزوز اللذان يعتبران من أعرق الأحياء، حيث ارتأينا ونحن نتجول فيهما البحث عن تاريخ هذه الحرفة، بالحديث مع المبدعين الذين أفنوا حياتهم للحفاظ على تاريخ أجدادهم، والكشف عن سرّ جمال المنتوجات الخشبية، وعن الأيادي الخفية التي أمتعت ناظر كل من يقصدها، ليقول في هذا الصدد توفيق وهو حرفي في صناعة الأثاث، إنه يمارس هذه الحرفة منذ نعومة أظافره رفقة والده وأنها مهنة العائلة منذ سنوات، ليضيف بأنه حاليا يملك محلا وأن سلعه تسوق بأغلب ولايات الوطن. ويضيف زينو وهو مالك لورشة نجارة في ذات السياق بأنه يصنع الأثاث ويجهزه ويسوقه بالمحلات على مستوى البلدية وخارجها. من جهة أخرى، قال ذات المتحدث إنه يقوم ببيع هذا الأثاث جملة وتفصيلا ويقصده الناس من كل جهة، إضافة إلى أنه يتعامل مع المحلات من مختلف ولايات الوطن وأسعاره جد معقولة، حيث يتراوح سعر غرفة النوم بين 4 ملايين الى 30 مليون سنتيم. ويفد إلى حي بن عزوز الكائن بالقليعة مئات التجار يوميا لاقتناء الأثاث بالجملة، وهو ما أطلعنا عليه فارس والذي قدم من ولاية سطيف لاقتناء كمية من الأثاث حيث أخبرنا انه يملك متجرا للأثاث بسطيف، وأنه يأتي بغرض اقتناء الأثاث المنزلي بالجملة ليعيد بيعه بمحله، ويضيف عمر في ذات السياق بأنه قدم من العاصمة ليشتري الأثاث ليعيد بيعه بمحله. ولا يقتصر توافد الزائرين من التجار فقط على حي بن عزوز حتى المواطنين العاديين يقصدون الحي من أجل الاطلاع واقتناء الهدايا والأثاث لمنازلهم، وهو ما أطلعتنا عليه زهرة لتقول بأنها قدمت من أجل شراء أرائك لمنزلها الجديد، مضيفة بأنها وجدت كل ما تشتهيه من أشكال وألوان وموديلات جديدة عبر الحي، ويقصد الحي المقبلين على الزواج حيث يأتون إلى القليعة لاقتناء كل المستلزمات من الأثاث المنزلي، حيث تقول زكية في هذا الصدد أنها جاءت رفقة ابنها المقبل على الزواج من اجل اقتناء غرفة النوم وبعض الأثاث لتضيف بأنها وجدت ضالتها. ويضيف مروان بأن وجهته هي القليعة وتحديدا بن عزوز عند احتياجه لشراء الأثاث. كركوبة مقصد العائلات من كل حدب وصوب لا يختلف الأمر بالنسبة لحي كركوبة، حيث ما يلفت الانتباه ذلك الأثاث الممتد على طول طرقات المحلات والأرصفة، إذ تعرض أنواع كثيرة من الأثاث الفني الفاخر، بحيث لا يكاد يمر زائر لمدينة القليعة إلا وتوقف لرؤية الأثاث ومساومته لتطلعنا فاطمة في هذا الصدد، والتي التقيناها بحي كركوبة أنها كانت بصدد التسوق وجاءت لتتفقد ما إذا كانت هنالك أنواع وموديلات جديدة للأثاث، وتشاطرها الرأي سعاد التي قالت بأنها من رواد منطقة كركوبة للأثاث وأنها تزوره باستمرار إن لم يكن للشراء فلمشاهدة الأثاث الفاخر. ووجدت العائلات من القليعة ضالتها لشراء الأثاث المنزلي وتجهيز المنازل، حيث تتوفر الأسواق على كل ما يشتهيه المواطن وبكل الأنواع والأذواق من غرف النوم وغرف الأطفال وعتاد المطبخ وخزائن وموائد وكراسي وصالونات وأرائك، حيث يحتار المرء ويتوه بين الأنواع والأشكال التي أبدع فيها الحرفيون، ليقول لنا مراد صاحب محل بحي كركوبة بأنه يملك ورشة ويوظف فيها نخبة من أمهر النجارين والحرفيين، ليضيف في ذات الوقت بأنه امتهن الحرفة وراثة عن والده، ويملك العديد من أصحاب المحلات ورشات خارج المنطقة التي يبيعون فيها الأثاث، حيث أطلعنا ناصر صاحب محل بأن لديه ورشة خاصة بوسط القليعة، وأنه يقوم بتجهيز الأثاث هناك ويبيعه بحي كركوبة. ويضيف زين الدين بأن ورشة والده التي يجلب منها الأثاث تقع بطريق بوسماعيل ويقوم بتصنيع وتجهيز الأثاث بها لبيعها، ولا يقتصر بيع الأثاث على أصحاب الورشات حيث أن أغلب تجار الأثاث يملكون ورشات ليكتفي آخرون بشرائها من هذه الورشات وإعادة بيعها، وهو حال رفيق الذي أطلعنا بأنه يقوم بشراء الأثاث من إحدى الورشات المتواجدة بوسط القليعة، ليضيف بأنه يشتريها بأسعار معقولة ويصنع الأثاث بأنواع مختلفة من الخشب، فلجودة ونوعية الخشب دور في أسعار الأثاث والتي ترتفع حسب نوعية الخشب لنجد الخشب الصلب، وهو خشب شجرة الجوز يحتل الصدارة في ارتفاع أسعار الأثاث، وهو ما اطلعنا عليه سليم صاحب محل أثاث بمنطقة كركوبة حيث أخبرنا بأنه مختص في صناعة غرف النوم الفاخرة، ليضيف بأنه يعتمد على الخشب ذو الجودة الرفيعة في صناعته، ويضيف محدثنا بأنه يعتمد على الخشب الصلب للجوز. وعن مصدر الخشب المعتمد عليه، يضيف سليم بأنه يستورد الخشب من أمريكا اللاتينية ويصل سعر غرفة النوم المصنوعة من خشب الصلب أو الجوز إلى غاية 30 مليون ويطلق عليه الماسيف ، كما أخبرنا صاحب محل غرف النوم، مضيفا بأن الخشب طبقات وأنواع مثل الذهب والنوع المميز فيه هو نوعية الماسيف حيث تبدأ سعر الغرف المصنوعة من الماسيف من 14 مليون فما فوق، وذلك لجودة النوعية وملمسه الناعم إضافة إلى لونه المائل إلى البني القاتم. ورغم غلاء أسعار الأثاث المصنوع من الجوز، فإن أغلب المواطنين يفضلونه حيث يقول بلقاسم صاحب محل بأن هناك إقبال كبير على الأثاث المصنع بالجوز لصلابته إضافة إلى لونه الجذاب ويشاطره الرأي محي الدين، ليقول بأن أثاث منزله من خشب الجوز الصلب، ليضيف بأنه رغم مرور زمن عليه فإنه لا يزال في وضعية جيدة وكأنه جديد ولا يحتاج طلاء أو إضافة ألوان له لأنه لا يتبدل وسهل في التنظيف. هذا هو مصدر الخشب المستعمل في صناعة الأثاث أخبرنا العديد من أصحاب المحلات بأن أغلب أنواع الخشب مستوردة يتم جلبها من خارج الوطن، وهو ما أطلعنا عليه سمير صاحب محل وورشة نجارة حيث أخبرنا بأنه يستورد خشب من أمريكا اللاتينية وفنلندا ليضيف بأنه يتنقل شخصيا إلى هذه البلدان لإحضار الخشب فيما يكتفي آخرون بشرائه من الأسواق وشركات الاستيراد الخاصة ببيع الخشب، وهو ما أطلعنا عليه سفيان حيث أخبرنا بأنه يشتري الخشب من محل خاص ببيع الخشب بالبليدة، ويضيف نبيل صاحب ورشة للنجارة بأنه كان سابقا يتعامل مع شركات الاستيراد، وأنه حاليا يسافر إلى مناطق مختلفة يتوفر فيها الخشب الذي يحتاجه في صناعته، ومن أنواع الخشب التي يحتاجها الحرفيون والنجارين في صناعة الأثاث هو الخشب الأبيض والخشب العادي والذي يعتمد فيه في صناعة الأثاث العادي على غرار أثاث الأطفال وموائد المطابخ وغيرها، حيث أطلعنا عبدالله صاحب ورشة ومحل بأنه مختص في صناعة الأثاث العادي، ليضيف بأنه يعتمد في ذلك على الخشب العادي والأبيض، ليضيف بأنه سهل في التحضير. ويضيف ذات المتحدث بأنه يقوم بإحضار هذا النوع من الخشب من روسيا وفنلندا والصين، ويضيف ياسين في ذات السياق بأنه يعتمد على الخشب الأبيض المحلي أنه يقوم بشرائه من محل بالقالة. وللخيزران حكاية جيل بأكمله وتعد صناعة التحف والأثاث الفني من ميزات مدينة القليعة، حيث يمتهن الكثيرون حرفة صناعة التحف الفنية والتي يعتمدون فيها على خشب الخيزران، إذ تنتشر ورشات صناعة الخيزران بالمنطقة بصورة ملفتة، وقد أطلعنا إبراهيم صاحب محل للتحف بأنه مختص في صناعة التحف والأثاث الفني، ليضيف بأنه يعتمد في ذلك على خشب الخيزران ليقول بأنه يستورده من الفيتنام والصين، ويضيف محدثنا بأن هذا النوع من الخشب غير موجود محليا ويستورد بأثمان باهضة وثمنه يساوي 6000 دج للقضيب الواحد بطول 20 متر عرض 15 سنتمتر، ويصنع من الخيزران أنواع جميلة من السلل والتحف إضافة إلى الكراسي الهزازة، وهو ما لاحظناه بمدينة القليعة عامة حيث لا تخلو الطرقات رئيسية من هذه المحلات والتي تباع بأسعار مرتفعة حيث يبلغ سعر الكرسي المصنوع من الخيزران 2 مليون ما فوق، وهو ما أطلعنا عليه فوزي صاحب محل لبيع الكراسي الهزازة والتحف، ليضيف بأن الخيزران صلب ويصعب كسره، وهو ما شاهدناه خلال جولتنا بالمنطقة إقبال كبير من طرف المواطنين من داخل وخارج البلدية على مثل تحف الخيزران، حيث لا يكاد زائر يمر بالمنطقة ولا يقتني تحفة مصنوعة من الخيزران وهو ما أطلعتنا عليه دليلة والتي كانت بصدد شراء تحفة على قارب مصنوعة من خشب الخيزران. التصميم والإبداع يفرض الأثاث المحلي ونحن نتجول بين أرجاء حيي كركوبة وبن عزوز المشهورة بصناعة الأثاث، تيقنا بأن السوق المحلية للاثاث تمكنت من فرض منطقها بالموازاة مع المنتجات المستوردة، وذلك بفضل التصميم والإبداع والأسعار التنافسية، وكذا بتوفير النوعية التي كانت غائبة في وقت مضى وأجمع جميع تجار الأثاث سواء في أسواق أو ورشات القليعة (تيبازة) وأن المنتوج يبقى متينا وذو نوعية مقارنة بالمنتوج الأجنبي مما يمكنه من منافسته. كما أكد أحد صانعي الخشب من القليعة التي أصبحت منطقة معروفة بصناعة وبيع الأثاث، أنه عند دخول هذه المنتوجات المستوردة إلى السوق أعجب الزبائن بها حيث تتميز بتصميم جيد ولكن مع مرور الزمن لاحظ هؤلاء أن المنتوج المحلي يبقى الأمتن. وعادة ما يصف تجار الأثاث المنتوجات المستوردة خصوصا من آسيا لاسيما غرف النوم والمقاعد والصالونات ومختلف المنتوجات الأخرى بالهشة ولا تتحمل الرطوبة وغير قابلة للتصليح لأنها مصنوعة بمواد غير متينة كلوحات لألياف متوسطة الكثافة، أي مصنوعة ببقايا النجارة ممزوجة بغراء الخشب ويلصق عليها صفحات من الخشب. وأشار التجار إلى أنه عكس المنتوج المستورد، فإن الأثاث المحلي مصنوع أساسا من الخشب مثل المران من فصيلة البلوط والبلوط أو الأكاجة مما يجعله متينا. كما اعترف صانعو الأثاث أن الجزائر تعرف تأخرا في تصميم و صناعة الأثاث و ذلك بسبب نقص التكوين في هذا المجال وكذلك الآلات واليد العاملة المؤهلة. غادرنا هذا الحي الذي يغلب عليه اللون البني الذي يعكسه الأثاث، ودّعنا الحرفيين الذين استقبلونا بكرم وطيب، وهي السّمة التي تميّز سكان مدينة القليعة.