(شذراتٌ من رسالة مطولة) أحمد دلباني 1 صديقي الكبير أدونيس، فضلتُ، هذه المرَّة، أن أكتبَ لك مُباشرة بعد أن كتبتُ عنك كثيرًا. لم أشأ أن تكونَ ضميرًا للغائب - أنت الأسطع حضورًا في المشهد الثقافيّ والإبداعيّ العربيّ منذ عشريات. كما وجدتني مُغتبطا كثيرًا بالتوجه إليك باعتبارك صديقا منذ أن نبَّهتني في مُكالمةٍ هاتفية قائلا:»نحنُ صديقان يا أحمد». وهكذا خلصتني من صفة «الأستاذ» التي لم تكن تعني لي إلا ذلك التوقير الضروريّ لمن نشأتُ، شخصيا، في كنف عوالمه وفتوحاته التي أيقظت الثقافة العربية على فجر السّؤال ومُغامرة الإبداع خارج سلطة النماذج. أتذكرُ جيِّدًا ذلك الهواءَ الغريبَ اللافح الذي غمرني وأنا بعدُ فتى يافعٌ يقرأ أعمالك الشعرية الانقلابية إلى جانب قراءته لمجاميعَ شعريةٍ كثيرة جعلت بعضَ مُعاصريك يُوصَفون ب «الرّواد». ولكنني رأيتُ في كتابتك انتفاضة خاصة ونبرة استثنائيَّة لم أستطع تفسيرَها آنذاك. هي نوعٌ من الرّعب الجميل الذي عرَّفني ببعض مهام الكتابة الحديثة وهي تُفيقُ على فاجعة وقوفِ الإنسان وحيدًا على أرض هجرتها الآلهة. أعترفُ، حينها، أنني شعرتُ بغبطة ماكرة لا يعرفها إلا من انكشفت أمام عينيه الشجرة المُحرَّمة بكل عُريها. شعرتُ بالفرح الفادح. رأيتُ البداية هاوية وندَّاهة تغري بالسَّفر الدائم إلى ينابيع الكينونة الأصيلة. كنتُ كمن يتذكَّرُ فردوسا حجبتهُ الحكاياتُ التأسيسيَّة التي توارثناها؛ ورأيتني أنظرُ إليك وأنت تُعلمُ – من جديد - اللغة العربية البهيَّة أن تنفضَ عنها غبارَ الأيام والعطالة الحضارية وتجترحَ ما نسيتهُ من أقاليمَ في أغوار الذات والعالم والحضارة. لا تبدأ البداية إلا بإعادة النظر في حكاياتها وسرديَّاتها. وقدرُ الإبداع أن يظل سفرًا لا ينتهي إلى البداية. قدرهُ أن يبقى مُقيما قرب فجر الأشياء قبل أن تسقط في الابتذال أو تتحوَّل إلى سلطة ودلالة علويةٍ تُلوي عنقَ العالم. لقد كنتَ، صديقي الكبير، من الذين نبَّهوني إلى ضرورة الخروج من أسر البدايات التي ادَّعت أنها اعتقلت المعنى بصورة نهائية في المُدوَّنة الرَّسميَّة دينية كانت أو إيديولوجية / علمانية. وكنتَ شديدَ التذكير بفضائل ذلك الطائر الأسطوريِّ الذي يشربُ، كل صباح، من نهر النسيان قبل أن يُسافرَ في غابة العالم: الشعر. لقد عرفتك شاعرًا مُكتنزا بالرعب الذي أنتجتهُ الحداثة وهي تُشيعُ القلقَ العظيم وتعلنُ هجرة المعنى من السَّماء الآفلة إلى أرض بكر شهدتْ ولادتها أخيرًا وعِتقها من زنزانة اللاهوت. رأيتَ في الشعر طاقة تخريبيَّة وسؤالا وهجرة إلى بكارة المعنى. رأيتَ فيه مُقاومة للثقافة السَّائدة وتحريرًا للكينونة من أسر المُتعاليات والمُسبَّقات. رأيتَ فيه لقاءً بالدَّهشة الأولى وتنظيفا للغة من ذاكرتها ومن تاريخ تفنَّنَ في تعليمها كيف تُصبحُ مُومياء. أصبحَ الشعرُ معك يسردُ قصة عِتق شرارة اللغة من رماد الماضي. قاومتَ سيادة الثقافة – المُتحَف بمشروع ثقافةٍ جديدة تلغي سلطة الأسلاف والمرجعيَّات. كنتَ، في كلمة، ذلك الولدَ الرَّهيبَ الذي نثر الشوك على سرير الآلهة. بداية، انحزتَ إلى حكايةٍ تأسيسيَّة أخرى. اخترتَ أن تكونَ من سلالة بروميثيوس لا آدم. اخترتَ أن تنحاز إلى الإنسان لا الآلهة. فضلتَ التمرّدَ على الخضوع. اخترتَ تحريرَ العالم والمعنى من خطاب السلطة الثقافية المُبشِّرة بالنهايات لكي تعلنَ سيادة البداية: المُغامرة الدَّائمة في اكتناه العالم والوجود. وقفتَ ضدَّ المُؤسَّسة لكي تحرِّرَ الطاقة الخلاقة. ورأيتَ في الثقافة - بالمعنى الواسع – ساحة معركةٍ من أجل امتلاك المعنى الذي يُبرِّرُ الهيمنة على الحاضر. من هنا ذلك النبشُ الدؤوبُ في الماضي الثقافيّ العربيّ بغية تحرير التاريخ من الكتابة الرَّسميَّة وتحرير الهامش الإبداعيّ من كتابة السلطة. أردتَ أن تجهرَ بآيةٍ جديدةٍ ضدَّ ثقافةِ الهيمنة باسم الهوية كما يُعادُ إنتاجُها. بداية، أردت أن تقول: «في البدء كانت الكثرة». أردتَ اختطافَ حق الكلام من سلطة التأسيس للأصول التي تُمليها رغبة الهيمنة. لا مكان للوغوس المُتعالي في ثقافة تُريدُ أن تكونَ ثقافة للعقل والحرية بمعزل عن العسف والعُنف باسم الواحدية. رُبَّما لم ينجح بروميثيوس العربيّ في الاحتفاظ بشعلةِ المعرفة المُحرِّرة التي اختطفها من زبانية السلطة الثقافية الرَّسمية. هذا صحيحٌ. ولكنهُ بقي شهادة على إبداعيَّة الإنسان العربيِّ في الماضي. بداية، حاولتَ الانقلابَ على ثقافة اليقين والجواب مُبشِّرًا بثقافة تقومُ على السّؤال المُغيَّب والمُدان منذ تمَّ رميُ الفلسفة في نهر الموت وتكفيرُ الخارجين عن نظام الطاعة. حاولتَ أن تخرجَ من ثقافة الإيمان وتسترجعَ حقَّ السؤال في المواطنة بيننا. لم يكن الأمرُ هيِّنا في ظل ثقافة عاشت على الخدَر قرونا طويلة ولم تعرف، ثقافيا وفكريا، إلا أشكالا قليلة من المُمانعة. لم يكن الأمرُ هيِّنا في ظل ثقافة أصبحَ الفقيهُ رمزها الأوَّل باعتباره سلطة إلغاءٍ للعقل والبحث المُتحرِّر من هيمنة المرجعيات المُقدَّسة. لم يكن الأمرُ هيِّنا أبدًا أمام الحجاب الذي ألقتهُ الحقيقة المُؤسَّسة على نص أوَّل تم احتكارهُ ليُصبحَ عقيدة للسياسة وسلطة نبذٍ وتكفير. لقد كان من اللازم إعادة النظر في كل شيء، وفك الارتباط بين الحقيقة والسياسة في فعل تحرير للمعنى من السلطة. إنَّ «ثقافة المؤمن» السَّائدة دجَّنت الحقيقة وخنقت، بذلك، إمكان تفتّح «ثقافة المُتسائل» في تاريخنا. تلك سرديَّة هيمنة وسيطرة بكل تأكيد. لقد حسمَ السلطانُ والسيفُ الأمر. ظلت الحقيقة جارية في بيت السلطان ولم تكن شأنا عقليا أو بحثا يضعُ الإنسان العربيَّ - المُسلم في قلب مُشكلة الوجود والقيم والمعنى. وظلت أيضا شاحبة الوجه كعودٍ يابس في بيت المُطلق لا تكادُ تجدُ سبيلا إلى شرفة تطل منها على العالم: عالم التغيّر والصَّيرورة. من هنا، رُبَّما، دعوتك إلى ضرورة «الجهر بنهاية المُطلق» للخروج من نظام ثقافيّ تصلبت شرايينه وأصبحَ يُعاني من البطالة والعطالة في عالم اليوم. لقد كان كل شيءٍ يوحي بأنَّ التاريخ يُجرجرنا - دون أن ندري - إلى مأدبةٍ لم نخرج، إلى اليوم، من التحدّي الذي جابهتنا به : «صدمة الحداثة». بداية، تساءلتَ: إلى متى يظل نصُّ العالم والإنسان سجينَ القراءاتِ المُتعالية الأحادية المُنتهية؟ بداية، تودَّدت: أيها الشعرُ، متى يحينُ عهدُك؟ 2 أعرفُ جيِّدًا، صديقي الكبير، كيف سكنك هاجسُ التفكيك في السنوات الأخيرة وأنت تقفُ متأملا مآل ومصائرَ الصراع على المعنى باسم الهويات التقليديَّة التي ظلت تنهل من الوحدانيات الدينية. ولعلك تدركُ – وأنت وريثُ ثقافةٍ ألفية قامت على بُعد الواحدية الدينية والسياسية – كيف أنَّ العالم ظل طائرًا يتخبط في شرك العوالم المُنتهية التي مثلها استبدادُ الحقيقة الواحدة والمعنى النهائي للأشياء. من هنا نضالك الدَّائمُ من أجل حكاية تأسيسيَّة جديدة تُسدل الستارَ على أسطورة الأصل الواحد والمعنى الواحد. من هنا نضالك من أجل استرجاع العالم حقه في الكشف عن سَديمه الأصلي. من هنا جهودك الأخيرة في تحرير التاريخ من سطوة الواحدية وانفتاحه على حقيقة التعدد والكثرة. إنَّ هاجسَ الحرية المركزي عندك يتجلى بوضوح أكبر من خلال سعيك الحثيثِ نحو عِتق المعنى من كل مُحاولات التدجين داخل المنظومات المُغلقة. بل لقد ذهبتَ بعيدًا في اكتشاف «غولاغ» النبذ الخفي الذي مثلتهُ الوحدانيات الدينية والمُسبَّقاتُ الإيديولوجية معا. كان عليك أن تناهض المُسبَّق الذي ظل ينتصبُ سورًا يمنعُ تسربَ الضوء إلى الحياة وأنت تجتهدُ في الكشف عن بكارتها الدَّائمة. وربما كان يحلو لي أن أشبِّه، أحيانا، عملك النقديَّ بما فعله نيتشه في الثقافة الغربية وهو يرى في الأخلاق «سيرسه» Circé أخرى اعتقلت جسارة الفكر الغربي الأولى ومأساويتهُ محولة إياه إلى خنزير صغير طائع يُشيحُ بوجهه عن نشيد الصيرورة العظيم ليتعلق بالعوالم الوهمية. لقد رأيت في المُسبَّق نفسَ الشيء. وكان عليك أن تبحث عن دروب أخرى لرحلة أوليس العربيِّ إلى مهادِ الضوء. لقد كان هذا الهاجسُ الكبير انحيازا للأرض ضدَّ السَّماء التي ظلت مرجعا لسطوة واحدية المعنى ومُؤسَّسة التاريخ الوصيَّة على الحياة وتعددها وغناها. كان مشروعك انتصارًا لحقِّ الأرض في الإفصاح عن ضوء مُختلف لا يعلوه شحوبُ وجهِ الإنسان ولا يكشفُ عن غبطة الآلهة السكرى أمام مومياء الحياة مثل نيرون. ولكن تجبُ الإشارة إلى أنك – في كل ما كتبت – كنت ثائرا على المُؤسَّسة الثقافية - الدينية لا على الروحانية أو ذلك الظمأ الأبدي الذي يقودُ الإنسان أبديا إلى القرع على باب السِّر. كنت ثائرًا على زبانية جحيمنا وهم يُحوِّلون الإنسان العربيَّ إلى عبدٍ تتربصُ به دائما اللعنة الأبدية كلما تجرَّأ على مدِّ اليد إلى شجرة المعرفة المُحرِّرة. لقد كتبتَ صفحاتٍ مُدهشة عن إيكاروس المُسلم وهو يتوسلُ المسالك الوعرة إلى الشمس قبل أن يسقط مُحترقَ الجناحين شاهدًا على لانهائية الرحلة إلى ينابيع المعنى النهائي. إنَّ مشكلة عالمنا العربيِّ – الإسلامي تكمنُ في مأسسة الواحدية ثقافيا وسياسيا بعيدًا عن فتوحات العقل المُعاصر الذي خاض معاركه الظافرة ضدَّ كل نزوع شمولي يتمترسُ وراء اللوغوس الديني والفلسفي من أجل تبرير الهيمنة وحجب مداخل المعنى المُتعدِّد. من هنا ثورتك ضدَّ التمذهب المُغلق والمذهبيات جميعها باعتبارها مُعتقلاتٍ وسجونا وتشرنقا أمام العالم والتاريخ، فضلا عن كونها ينبوعا ثرا لمُختلف أشكال النبذ والاستبعاد والمحو المُمارَس على المُختلف. ومثلما رأى نيتشه في المسيحية التاريخية «ميتافيزيقا الجلاد» كما يُعبِّر، رأيت صديقي أنَّ «كل مذهبية حبلى بالجلادين» في تأكيدٍ مهم على كون الثقافة السَّائدة لا يُمكنها أن تحبل إلا بالكارثة على مُستوى العلاقة مع الآخر المُختلِف ما دامت تعتبرُ المعنى جارية مسجونة في سراي السيِّد أو الثقافة المهيمنة. كل رؤية مُنتهية للعالم هي رؤية عُنفيَّة بالأساس تستبعدُ المُختلف من دائرة الخلاص الديني والدنيوي معا؛ كما أنها تضمرُ القول بأنَّ الإبداعَ وقيمَ الكشف تبدو نافلة ما دامت ترى المُستقبل ماضيا يتحققُ أو نبوءة حبلت بها الكلمة الأولى. هذا ما يُفسِّرُ، صديقي، ثورتك منذ بدايات نشاطك الإبداعي والفكري على البنيات المرجعية للفكر، وتشكيكك في قدرة الإيديولوجيات - حتى وإن كانت ثورية - على تحرير الإنسان وعِتق المُستقبل من نبوات من ظلوا يحملون سوطا في تعاليمهم «التقدمية». ظلت الكلمة الأولى جرثومة تغذي نزعة الاستبداد الفكري والانغلاق المذهبي والتمترس وراء حصون الهوية بمعزل عن جلبة التاريخ الفعلي وإيقاعه الأهوج. هذا ما جعلني أرى فيك مفككا حدس - منذ زمن بعيدٍ - بانهياراتنا المقبلة في أوج الصخب الإيديولوجي الذي رافق نضالنا طيلة خمسين عاما. لا يُمكنُ، بالتالي، أن يكونَ التحريرُ من أوضاع مُماثلةٍ أمرًا واقعا إلا بنوع من «الخرق الثقافي» كما تُعبِّر. لا يُمكنُ أن يتمَّ خروجُنا من أسر الواحدية إلا بالخلخلة الثقافية والنقد الشامل لنظامنا الثقافيِّ القائم على استبداد المرجعية والتعالي الأنطولوجي للحقيقة المُحنطة في حضن المُطلق. إنَّ زمنَ الأرض لن يحينَ عهدُه إلا باحتضان التاريخ والتغير والانفتاح على التعدد؛ ولن يكونَ مُمكنا إلا بالخروج من شرنقة اللوغوس الديني والثقافي. وما زمنُ الأرض إلا زمن الإنسان وقد مدَّ جسورًا إلى العالم الآتي من حضن المجهول. بداية، تساءلت صديقي ضمنيا في كل ما كتبت: «كيف لثقافةٍ لم يتأسَّس فيها المجهولُ باعتباره بُعدًا من أبعاد الوجود أن تكونَ حاضنة للإبداع أو دعوة إلى السَّفر في بكارة العالم؟ كيف لثقافةٍ مُماثلةٍ أن تحترمَ التعدد والاختلاف وأن تحلمَ بمجيء ملكوت الإنسان على الأرض؟».