السرد و الدلالة في حكاية رأس مفقود د- وليد بوعديلة جامعة -سكيكدة صدرت مؤخرا رواية "الرميم" للكاتب الجزائري الأزهر عطية عن دار الكتاب العربي، وهي رواية جديدة تضاف لهذا المبدع بعد رواياته"المملكة الرابعة"، "اعترافات حامد المنسي"،"غرائب الأحوال"...، و هي رواية تتحدث عن محاولات إعادة جمجمة شهيد لرميم جسده، بعد أن استشهد في إحدى المعارك ضد المستعمر الفرنسي. فما هي العوالم الدلالية للرواية؟ وما هي أهم خصوصياتها البنائية؟ وما قصة الرميم فيها؟... رميم الشهيد..رميم الوطن؟؟ تتشكل الرواية من ثلاثة فصول يحمل كل واحد فيها قصة المجد النوفمبري الجزائري لكن بتقنيات وتصورات مختلفة، وهي مرتبطة فيما بعضها، فأرملة الشهيد "الكاملة" لا تتوقف عن سفرها الفجائعي بحثا عن رأس زوجها الشهيد، وفي هذا الفضاء السردي البطولي يقرأ القارئ مشاهد فلاحية ورعوية كثيرة، تجعل من أسلوب الرواية رومانسيا بامتياز. لا يكتفي السارد بسرد الوقائع اليومية للفلاحين وأخبار المجاهدين وتنقلاتهم فقط، وإنما يقترب من ممارسات المستعمر وهمجيته في البطش والتعذيب وقنبلة القرى، وعرض جثث الشهداء في الساحات(ص33)، كما تلتفت الرواية من حين إلى آخر للثقافة الشعبية ،مؤكدة على أن الأزهر عطية عارف بالعادات وبالموروث الشعبي(مثل الحديث عن قراءة الكف،...). وهو يتحرك أدبيا بفضل ذاكرة شعبية في السياق وفي النص، ويشكل عالمه الإبداعي عبر لحظة فنية تمزج التراثي بالراهني، لتمنح القارئ متعة الانفتاح على الرواية التي تقدم فضاء متخيلا، فيه من القيم الأصيلة و السياسة و الفكر و العاطفة...، دون السقوط في الوعظية والتقريرية. وبعد أن تتعرف الزوجة على جثة زوجها الشهيد رغم قطع رأسه تسعى لجلب الجثة ودفنها تحت شجرة الزيتون بالقرب من المنزل، وذلك من دون أن يكتشف الفرنسيون الأمر(ص50)، وهنا يقدم السارد وصفا صوفيا للشهيد،و لكن لاحظت القراءة أن الروائي لم يذهب بعيدا في التأريخ للثورة التحريرية و معاركها وبطولاتها ، وكأنه كان مشغولا بفكرة ما، أو كأنه لا يريد أن يعيد ما كتبه غيره من الروائيين الجزائريين، وما قدمه السينمائيون و المسرحيون من مشاهد ثورية وأعمال فدائية،أو أنه كان مصدوما بما يقرأه أو يسمعه من صراع واتهام و تلاسن بين المجاهدين، ، بمعنى أن الكاتب أراد انجاز قراءة فنية مغايرة للحدث النوفمبري المجيد. إن الوطن الذي يخون ذاكرته يتحول إلى رميم، و لا جدوى من بقائه المادي في ظل ضياعه القيمي الرمزي، وأن الإنسان الذي يدوس على قيم و عهد من منحه الحرية لا يستحق الحياة، وسيكون ذليلا مهانا في محفل الأمم، بل هو رميم، وهو إنسان مشوه، منحط، تافه، معوق... رغم مظاهر الزيف المدني التي تحيط به؟؟ عبر كامل الرواية تظل صورة الجثة مقطوعة الرأس تحرك وجدان الأرملة وتخلخل فكرها وتتحكم في حياتها، فما هي الدلالة والرمزية؟ ألا يحمل مشهد اختفاء رأس الشهيد دلالات اختفاء قيمه وأفكاره وأحلامه في الجزائر المستقلة؟ ألا تحمل صورة الرميم الذي لا رأس له دلالة غياب رأس(مبادئ/فكر/أخلاق) هذا الوطن وتراجع أبنائه عن الوفاء للشهداء؟ يمكن هنا أن نتخيل مشهدا رمزيا غير مرئي للناس عامة، هو مشهد رؤؤس الشهداء في السماء تتأملنا وتتبع خطواتنا، لتكشف عيونها مفاسدنا ولتسمع آذانها خيانتنا وتنكرانا ؟؟ هل الشهيد راض عنا؟؟ قد تعني صورة الجثة بلا رأس دلالات الاستقلال الناقص، وإذا أعلن أول نوفمبر 1954 رفض الجزائري للتواجد الأجنبي في أرضه، فإن الاستعمار المعاصر لا يتواجد أرضا ولكن يتواجد فكرا، لسانا، اقتصادا، سياسة.إعلاما... عبر وسائل متجددة وخيانات متواصلة من الرسمي والشعبي. وإذا كان الرميم هو البالي من العظام، فقد يبحث الكاتب عن البالي من القيم و المبادئ؟ بل وكأنه يتساءل -في الأبعاد الرمزية للرواية-:هل تحولت قيم الشهيد ورموز الشهادة وقداسة الثورة إلى رميم؟؟؟ لم يضع الكاتب اسم "الكاملة" لأرملة الشهيد إلا ليقول نقصنا وهواننا،و كيف لا ترفض " الكاملة" أن تمنح –بعد الاستقلال- رميم زوجها الشهيد للسلطات المحلية قصد دفنه في مقبرة الشهداء، وهي تسمع -مثل كل الجزائريين- عن مقابر تحولت لأماكن عبث ومجون وشرب للخمور ؟ وكيف تترك المسؤلين يزورن قبر زوجها وزملائه في المناسبات الوطنية لقراءة الفاتحة وكل واحد فيهم فاسد أو هو مشروع لمتهم متابع من القضاء بجرائم السرقة والنهب والتزوير ، و...؟؟ تحيل الرواية في عمقها إلى أن الذين صنعوا المجد النوفمبري الخالد لم يتمتعوا بالاستقلال، فمنهم من مات، ومن عاش عانى في صمت بعيد ا عن الأضواء و الامتيازات، وعانت الجزائر التي ماتوا لأجلها من خيانة بعض زملائهم في الكفاح، لأنهم لم ينقلوا قيم الجهاد و التحرر بسبب انشغالهم بالسلطة والمال والعقارات و التحكم في الوطن باسم الشرعية الثورية لا الشرعية الدستورية و الديمقراطية؟، ولذلك" تستحق الجزائر بعد كل ما دفعته في ثورة التحرير وخلال الحرب الأهلية أن تستريح من الألم ومن الخوف، ولن يكون ذلك إلا بالتخلص من أسباب الخوف عبر إقرار نظام ديمقراطي يستوعب كل المكونات الثقافية للمجتمع"(2). لا غرابة أن يقترح الازهر عطية على القارئ صورا أسطورية وشاعرية للثورة(انظر ص120)،لأنه يؤمن بشرف الجهاد وقداسة الشهادة، لكنه بقي مصرا على الانتقال بالرميم من قبر إلى آخر، فماذا تريد يا أيها المبدع من هذا الفعل؟ نقرا في الرواية كلمات السارد عن الشاب "الربيع" ابن الشهيد:" سيبقى هذا الرميم الذي ما زال يحتفظ به بدون جمجمة، وإنه لشيء مؤسف ومؤلم حقا، فهل سيبقى هذا الرميم هكذا مشردا لا يعرف الراحة؟"(ص212). وقد انتقلت جثة الشهيد من ساحة القرية، إلى قبر تحت شجرة، ثم- بعد ان صارت رميما- إلى صندوق في المنزل...قبل ان تستقر في مقبرة الشهداء في آخر الرواية، لأن الزوجة ظلت تبحث عن الرأس لتلحقه بالرميم من دون جدوى.متحدية المتاجرين بالجهاد ومقاومة من صنعوا البطولات الوهمية وحول الثورة إلى سجل تجاري. و في إصرار الكاتب على الانتقال بالرميم من قبر إلى أخر محاولة فنية للدفع بذاكرة الشهداء إلى اللحظة الراهنة للوطن، وعدم تركها بعيدة عن التحولات الاجتماعية/السياسية، وحتى لا يقع الوطن في متاهات الخيانات المتجددة والتشويه المتواصل للمجد الثوري. في خصوصية السرد.. و على طريقة جرجي زيدان في رواياته التاريخية يدخل الروائي بعضا من القصص العاطفية لابن الشهيد، ليحدث نوعا من التخيل في البعد الواقعي ، وكي يمنح القارئ التشويق ويغير من الإيقاع السردي. ويسرد السارد لنا عوالم متخيلة ، في سياق السرد الشعري المنفتح على جلال المباني وجلال المعاني، فتأتينا شعرية السرد عبر اللغة المتوهجة والوصف الريفي الرقيق، وتزيد حركة المراة بحثا عن جمجمة الشهيد النص حركية وحيوية في سياق سردي مشوق. و أحالت الرواية القارئ على قصيدة محمد العيد آل خليفة"وقفة على قبور الشهداء"، ومطلعها: رحم الله معشر الشهداء وجزاهم عنا كل الجزاء وسقى بالنعيم منهم ترابا مستطابا معطر الأرجاء وفي القصيدة مقاطع يرفض فيها محمد العيد إقامة تماثيل صخرية للشهداء، ويدعو لإقامة ذاكرتهم في القلوب والأفكار والوفاء لهم فعلا لا قولا ... وقد تناص الروائي مع كثير من أساليب وصور الكتاب الرومانسيين المعروفين مثل جبران ، أبو ماضي،ميخائيل نعيمة...بتوظيف عناصر الحنين للوطن، التأمل، الطبيعة،الرقة والغنائية،الوصف الراقي، الفلسفة...، فرواية" الرميم" رواية التفاعل بين الأجواء الأدبية الرومانسية و المعالم البطولية الثورية، فيجمع النص الواحد مشاهد الطبيعة وصوت الوجدان و أنغام الموسيقى الريفية إلى جانب مشاهد البطولة وصوت الرصاص... كما يلتفت الروائي لهجرة الشباب من الوطن ورفضهم للواقع السياسي والاجتماعي، مقدما عواطفهم الجريحة وأفكارهم المتمردة الرافضة لممارسات سياسية فاشلة، يقول النص": كثيرة هي الأوطان التي تفرض على أبنائها أن يهجروها ويبعدوا عنها"(165).فقد هاجر الشاب الجامعي ابن الشهيد وطنه بعد أن لم يحترم القابعون على المناصب والمكاسب علمه، وبعد ان تضايق من أفعال الفاسدين ومافيا المال السياسي الذين خانوا عهد الشهداء و تأكد من فشل السياسات الاقتصادية في تحقيق الرفاه والنمو. و إذا كان الخطاب الرسمي -و من يطبل له من المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية- يرى بان الدولة لم تقصر في حق الشهداء و المجاهدين الشرفاء، وبان جزائر الاستقلال حققت السيادة، فهذا الخطاب مخطئ لان الوطنية ليست احتفالا كرنفاليا أو إنشادا حماسيا أو زيارة للقبور في المناسبات، وإنما هي فاعلية مواطنة وتجسيد للقيم المدنية الديمقراطية وبناء للإنسان و محاربة للفاسد الفاسدين.... في الأخير: أحالتنا الرواية إلى فضاءات سردية و تاريخة جميلة وجليلة، ، وظل الروائي -ومعه القارئ- يترقب عودة جمجمة الشهيد، وإذا كان الله تعالى يقول:"وضرب لنا مثلا ونسي خلقه،قال من يحي العظام وهي رميم، قل يحيها الذي أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم"(سورة يس الىية78-79)، فاللهم احيي لنا رجال هذا الوطن وأعدهم لنا، أعد لنا زيغود يوسف، العربي بن مهيدي، مفدي زكرياء،...وقبلهم الأمير عبد القادر، أعدهم ليزيلوا عنا الغم و الهم، وليحاسبوا من خانهم وتنكر لمجدهم و أرغم جزائر البطولات أن تكون في ذيل الأمم، قابعة في الفساد والاستبداد؟؟ ليأتي الشهداء سيجدون خلفهم من أضاع الأمانة، فالجزائر المستقلة لم تسترجع أرشيفها من استعمار الأمس؟ و ليس لها القدرة على كتابة قانون يجرم الاستعمار؟ و لم تستطع ان تطلب من فرنسا الاعتذار عن جرائمها بل هي تفتح أبواب الاقتصاد و التربية والإعلام ....؟ إن رواية "الرميم" للأزهر عطية رواية تستحق القراءة والتأمل.