أحبطت بيع مولود و تحدّت شخصيات ذات نفوذ استطاعت أن تحبط محاولة بيع مولود بالمستشفى من قبل أمه العازبة، و ساعدت أخرى على الزواج من حبيبها و استرجاع مولودها من دار الطفولة المسعفة، و أنقذت فتاة يتيمة من الملاهي و الدعارة و الموت ذبحا، و تمكنت من إعادة يتيم إلى مقاعد الدراسة بعد أن جرفه تيار الانحراف، و أقنعت مئات المسعفات بالعدول عن طريق الضياع و الانتقام و ساعدتهن على العثور على عمل شريف، كما دعمت مساعي عدد كبير من الشباب المسعفين من أجل الحصول على سكنات خاصة و إكمال نصف دينهم... فغايتها زرع الابتسامة في وجوه المهمشين و المحرومين و مساعدتهم على بلوغ مرفأ الأمان و الاستقرار، فأمومتها تتسع لحبهم جميعا، حتى أنها ظلت تتفقدهم و تمد لهم يد العون و النصح بعد إحالتها على التقاعد. المساعدة الاجتماعية حليمة بن قدوار، التي يحلو للبعض مناداتها الأم تيريزا القسنطينية، من الوجوه المعروفة بولاية قسنطينة و بقطاع النشاط الاجتماعي و التضامن تحديدا، الذي قضت به 40 عاما من عمرها، في خدمة المجتمع و الإنسانية المعذبة. حليمة بلغت العقد السادس من العمر، لكن ملامحها السمراء البهية و ابتسامتها المشرقة، تتحدى الزمن، فقد ظلت تتدفق حيوية و عنفوانا و طيبة، دعوناها إلى رصد محطات في مسارها المهني و ذكرياتها مع شريحة واسعة من المهمشين و المحرومين، بدءا بانطلاقتها في الحياة العملية بعد التخرج من المعهد شبه الطبي في أوت 1975، ضمن أول دفعة من المساعدات الاجتماعية بولاية قسنطينة، إلى غاية إحالتها على التقاعد. أشارت محدثتنا بأنها قضت ستة أشهر في التربص الميداني بمديرية الصحة، قبل أن يتم توظيفها وهي في ربيعها العشرين بذات المديرية، حيث التقت بالمساعدة الاجتماعية الوحيدة آنذاك بقسنطينة، السيدة بن جبار المولودة حابس ياسمينة التي قالت بأنها تعلمت منها بعض قواعد و أسرار المهنة، قبل أن يتم نقلها إلى مركز الطفولة المسعفة. أكدت حليمة: " كلما كنت أغوص في عملي، أتعلق به أكثر، لأنه إنساني بالدرجة الأولى، إلى جانب طابعه الاجتماعي الخاص. كنت أستغرب لأنه كلما يتم توظيف مساعدة اجتماعية جديدة تنسحب بعد شهور، مبررة ذلك بضعف الراتب و كثرة المشاكل لدى شريحة الأمهات العازبات و الطفولة المسعفة". و أضافت بأنه تم إسناد ملف الكفالة و الأمهات العازبات إليها، ما جعلها تتعرف على الأمهات العازبات و المربيات الكافلات و تدخل بيوتهن بمختلف أحياء قسنطينة الشعبية و الراقية، كما تجري تحقيقات اجتماعية و تتابع عن كثب وضعية المكفولين و تتدخل لمساعدتهم في الوقت المناسب و تغدق عليهم بمشاعرها و ما تيسر من مالها و علاقاتها، لينعموا بدفء الأسرة.و أشارت إلى أنها طالما تصدت لضغوط شخصيات ذات نفوذ و من بينهم شقيق وزير سابق للتكفل بمسعفين، لأنها حرصت على احترام الدور في قائمة طلبات الكفالة و كذا الشروط الموضوعية الدقيقة للموافقة على إسناد الكفالة للأسر. مضيفة بأن ثنائي الأم العازبة و الطفل المسعف، كان يشكل طابوها حقيقيا في المجتمع في نهاية السبعينات و بداية الثمانينات، و لا أحد كان يتجرأ على الحديث عنه، خشية الفضيحة و القتل و لم يكن آنذاك عدد الصغار المسعفين بقسنطينة سوى 90 أو 100 طفل، إلا أن أعدادهم تزايدت تدريجيا بعد ذلك،حسبها. محدثتنا بينت بأنها ظلت لسنوات طويلة الوحيدة التي تستقبل بمكتبها الأمهات العازبات و تلتزم بسر المهنة، مشيرة إلى أنها تلتقي في حفلات و مناسبات مختلفة ببعضهن و كذا الكافلات لليتامى، لكنها تتعمد عدم التحدث إليهن لتحميهن من نظرات الريبة و الشك و قسوة المجتمع. عن سر النجاح في ممارسة هذه المهنة، قالت بأنها أسرار و ليست سرا واحدا، في مقدمتها التربية الحسنة و الضمير الحي و احترام الآخر و الالتزام بأخلاقيات المهنة و حبها و عدم الاستسلام للضغوط، مهما كانت، إلى جانب التكوين المتخصص و الإصغاء الجيد و التوجيه. مواقف نحتت في ذاكرة حليمة بخصوص المواقف المؤثرة التي تعرضت لها خلال مسارها، قالت السيدة ابن قدوار، بأنها لن تنسى أبدا ذاك الفتى اليافع الذي تكفلت به سيدة منذ صغره بالمدينة القديمة و عندما انهار بيتهما الهش، اضطرا للإقامة في خيمة للمنكوبين. عندئذ لجأ الفتى إليها، معترفا بأنه لن يستطيع مقاومة رفاق السوء، إذا لم تساعده على التحويل إلى ثانوية قريبة من مكان إقامته الجديد. طمأنته و رافقته إلى أقرب ثانوية إلى خيمته حاملة وثائقه، لكن المسؤولين رفضوا استقبالها و التحدث إليها، فانفجر باكيا من وجع "الحقرة". و حاولت عدة مرات إقناعهم بتسجيله لإنقاذ مستقبله دون جدوى، فاضطرت عندما لاحظت انهياره إلى الاتصال بمدير النشاط الاجتماعي الذي اتصل بمدير التربية، فوجدا حلا للفتى الذي واصل تعليمه و هو الآن أستاذ بإحدى الثانويات. و تتذكر حليمة بمرارة قصة فتاة مسعفة تكفلت برعايتها امرأة طيبة، فعاملتها مثل ابنتها. عندما بلغت هذه الفتاة سن 13 عاما، نشب في أحد الأيام خلاف في المدرسة بينها و بين ابنة معلمتها، و سرعان ما تطور إلى شجار عنيف، و لم تتحكم المعلمة في أعصابها عندما علمت بذلك، فصرخت في وجه الصغيرة اليتيمة:"كيف تتجرئين و أنت مجرد لقيطة على التشاجر مع ابنتي؟".صدمت الفتاة و انقلبت الأمور رأسا على عقب في رأسها، و فقدت الثقة تماما في من اعتبرتها أمها و هربت من البيت باتجاه مدينة ساحلية. اليتيمة الجميلة و الذئاب شاء القدر أن تقع الفتاة البريئة بين أيدي أشرار، دسوا لها المخدرات في الطعام و اعتدوا عليها، و لم تلبث أن دخلت عالم الغناء في الملاهي و الدعارة و عانت الكثير من الاستغلال و الابتزاز و العنف، لكنها لم تتحمل وضعيتها المزرية طويلا، فقررت ذات يوم أن تعود إلى المرأة التي رعتها كابنتها و هي مكسورة القلب و الوجدان، احتضنتها المرأة مجددا، لكنها طلبت منها التخلص من آثار ذاك الماضي المشين و بدء صفحة جديدة من حياتها. و توجهت الفتاة إلى السيدة بن قدوار التي تدرك نقاء سريرتها رغم ما حدث، و أصغت باهتمام إلى إفضاءاتها و بحثت لها بسرعة عن عمل كعاملة نظافة بمؤسسة، لكنها لم تستقر طويلا بالعمل لأن بعض الشبان تحرشوا بها و حاولوا استغلال سذاجتها، و قام أخوها الذي تربى معها بطعنها بسكين كما طردت من عملها بعد أن استفزتها زميلاتها و نصبن لها فخا. لم تتحمل الشابة هذا الكم الهائل من العنف و الظلم بأنواعه، فحملت سكينا لتحاول الانتحار و كادت تنقل إلى مستشفى الأمراض العقلية، ثم إلى السجن لولا أنها استنجدت بحليمة الحنون. هذه الأخيرة كرست كل جهدها لإنقاذها من ورطتها، و العثور على عمل آخر لها و بيت صغير يأويها و نجحت في ذلك، و ظلت تتصل بها للاطمئنان عليها حتى بعد تقاعدها. و تتذكر أما عازبة منحت لقبها لمولودها قبل أن تتخلى عنه نهائيا بالمستشفى، و تبدأ حياتها من جديد، حيث تزوجت و أنجبت العديد من الأبناء و البنات و نشأ ابنها بمراكز الطفولة المسعفة إلى أن كبر و تزوج. و شاءت الصدف أن يمر ذات يوم، بمعية زوجته، قرب أحد الأحياء، فسمع بأن عائلة كبيرة و ميسورة تحمل نفس لقبه. و شرع في البحث و التنقيب إلى أن تعرف على أمه، فرحت به و لم تنكر ما حدث، لكنها ترجته ألا يفشي سرها، درءا للفضيحة، و استغل خوفها من أجل مساومتها بالمال و المجوهرات الذهبية مقابل صمته، معتبرا ذلك من حقوقه لأنها تخلت عنه و هو في أمس الحاجة إليها و اعترفت حليمة بأنها لم تجد حلا لهذه القصة المؤسفة. هناك حالة أخرى لابنة غير شرعية منحتها أمها لقبها و اسمها، قبل أن تتخلى عنها و عندما كبرت الابنة و تزوجت و أنجبت بدأت تسأل عن أمها دون جدوى، و عندما طلقها زوجها قررت أن تكثف البحث في كل مكان، و في أحد الأيام علمت بأن هناك عائلة كبيرة بإحدى القرى المحافظة تحمل لقبها، فتوجهت إليها رفقة صديقتها و عندما وصلت و بدأت تستفسر المارة عن ضالتها، خرجت عجوزا من أحد المنازل و هددتها بالقتل ذبحا إن لم تغادر المكان دون رجعة "العرش". أم تبيع مولودها في المستشفى اعتقلت ذاكرة حليمة حكاية أخرى لمراهقة كانت حاملا في شهرها الأخير عندما توجهت إلى المستشفى للخضوع لفحوصات و العلاج من بعض المضاعفات، فلاحظت بأن عاملة نظافة كانت تزورها باستمرار و تحضر لها مختلف الهدايا و المأكولات و كانت تقضي معها وقتا طويلا في الحديث و عندما تشاهدها تصمت و تضطرب ثم تنصرف على عجل ثم حولتها إلى مستشفى آخر لتلد هناك و أجرت تحقيقا اجتماعيا حول العاملة و الأم ، فاكتشفت بأنها اتفقت مع زوجين على شراء المولود من أمه، و بعد شهر من الولادة توجهت هذه الأم العازبة إلى مكتب حليمة و قالت لها بأنها تريد استرجاع ابنها من المركز لتتكفل به، فطلبت منها إحضار والدتها مرفقة ببطاقة هوية، عندئذ انهارت الفتاة و شرعت في البكاء ثم ذهبت دون رجعة. و أشارت محدثتنا إلى أنها التزمت طيلة فترة عملها على احترام شروط إسناد الكفالة و دور العائلات الكافلة، و لم يحدث أن استسلمت للضغوط و الوساطات و الإغراءات من أجل تسريع العملية أو التغاضي عن شرط مهما كان، مشيرة إلى أن قريب أحد الوزراء السابقين هددها في مكتبها ليأخذ رضيعا أعجبه، فرفضت بإصرار معاملته كدمية أو سلعة ،و قالت له بأن أمه يمكن أن تعود للمطالبة بحضانتها مادام لم يتجاوز ثلاثة أشهر و هي أحق بحضانته. "أحببت أجيالا من اليتامى كأبنائي" وبخصوص ما يقال عن المسعفين انهم عنيفين و يكرهون المجتمع و يحقدون عليه، أكدت بأنها مجرد إشاعات، فكلما أحسوا بالحب، و ليس الشفقة، و لم تتم معاملتهم بناء على أحكام مسبقة، أصبحوا مواطنين صالحين و إيجابيين، مؤكدة بأن الأجيال من اليتامى و المسعفين الذين التقتهم طيلة مسار 40 عاما من العمل، أحبتهم كأبنائها و احترمتهم، لأن كل البشر سواسية أمام الله، لهذا يبادلونها الحب و التقدير و يستمعون لنصائحها و توجيهاتها و يتصلون بها لاستشارتها و الاطمئنان عليها، إلى غاية اليوم. و تنصح العائلات الكافلة بأن تخبر المكفولين بطريقة لبقة و ذكية، بأنهم ليسوا من صلبهم لتقيهم من صدمة إبلاغهم من قبل أشخاص غرباء بعبارات فظة قاسية، قد تحطم ما تبقى من حياتهم و تقودهم إلى الانحراف و الإجرام، انتقاما من ذويهم و المجتمع، كما تنصح الكافلين بالتفكير في ضمان مستقبلهم، مثلما يفعلون مع أبنائهم، ففي معظم الحالات و بمجرد موت الكافلين يطرد هؤلاء اليتامى المكفولين من البيت و يتركون في قبضة الشارع و الضياع. الجدير بالذكر أن السيدة حليمة بن قدوار،متزوجة و أم لثلاثة شبان،و قد أخبرتنا بأنها تقضي الشهور الأولى من التقاعد مع أشغال البيت و تحضير كل ما يشتهيه أبناؤها من أطباق و لا تخرج من البيت، إلا من أجل التسوق مرة أو مرتين في الأسبوع.