"الجرف" ملحمة دامت 7 أيام بلياليها وأفقدت الاستعمار 700 عسكري افتكت معركة "الجرف" الشهيرة إبان ثورة التحرير الجزائرية اعترافا من العدو قبل الصديق بأنها المعركة الأقوى والأشرس والأطول في تاريخ معارك الثورة التحريرية، وشبهها بعض الفرنسيين ب "ديان بيان فو"الثانية التي تكررت أغلب مشاهدها المرعبة ذات خريف من عام 1955 بالجرف الأشم بولاية تبسة، ولم يكن هذا الوصف مجانبا للحقيقة ولا من وحي خيال صانعي هذه الموقعة، بل كانت نتائجها المحلية والداخلية والخارجية والعسكرية ترجمانا لهذا الانتصار الكبير، ولكن كيف نالت هذه المعركة كل هذا الشرف واستقطبت كل هذا الإعجاب والاهتمام، فتغنى بها الشعراء في قصائدهم ومجدها الفنانون في أغانيهم. بن مهيدي للمستعمر: يكفينا فخرا أننا لقّنا فرنسا درسا لن تنساه الموقعة التي ظلت خالدة بذاكرة من حضرها وعاصرها قد استمرت لعدة أيام و انطلقت شرارتها الأولى بتاريخ 22 سبتمبر 1955 وكان لها الفضل في دعم تدويل القضية الجزائرية بمؤتمر باندونغ مثلما يؤكده المجاهد حمه هنين في إفادته عن المعركة، لقد استمرت معركة الجرف لأسبوع تقريبا ودون انقطاع وبذلك صنفها المجاهدون ضمن أطول معارك ثورة التحرير،كما صنفت الأقوى بالنظر لتسخير جيش فرنسا قرابة 40 ألف عسكري مدججين بأعتى أنواع الأسلحة مقابل 400 مجاهد تقريبا تحصنوا بجبل الجرف (100 كلم إلى الجنوب الغربي من تبسة)، ورغم تباين القوى فقد حققت تلك الفئة القليلة انجازا تاريخيا بلغ مسامع المحافل الدولية، وكانت من ضمن الأسباب الداعمة لاحقا في تدويل القضية الوطنية وفك الحصار عن الولاية الأولى، واعتبرت نقطة تحول في مسار الثورة الجزائرية ويكفيها فخرا أن الشهيد العربي بن مهيدي أثنى عليها وعلى صانعيها حينما خاطب المستعمر بقوله " يكفينا فخرا أننا لقّنا فرنسا درسا في البطولة في الجرف لن تنساه". كما أتى ذكرها من طرف الجنرال "بوفو "قائد الفرقة الثانية للمشاة في تبريره لفشل جنوده في دخول قلعة الجرف المحصنة حين قال" تجابه قواتنا أعنف عمليات هجومية تصدت لها عمليات التمشيط والتطهير الواقعة الموجهة ضد الأوراس النمامشة والشمال القسنطيني، وقد اعترضتها صحراء صلدة تمثلت في قلعة الجرف،وهو جبل قاحل محدب"، ويصف الجنرال المرابطين فيه بالصخور والحجارة لبسالتهم فيقول " الجنود المرابطون به أشداء كصخوره لا تتفتت ولا تتزعزع" معرجا على تنامي قوة المجاهدين بهذه المنطقة فيشير في موقع آخر "لقد كشف الاستطلاع الجوي الذي قامت به القوات أن منطقة العمليات اتسعت بعكس ما كنا نتوقع وعكس ما خططنا له، مما عرض قواتنا لضغوط كبيرة"،، أما الطيار كلوسترمان الملقب عسكريا بدوفال الذي جند بين 1955 و1957 فقد احتفظت ذاكرته بمسرح المعركة المسمى "وادي هلال" أو القلعة ومركز القيادة بمنطقة الجرف مثلما يحلو للمجاهدين تسميتها أين يشير في كتابه المعنون " بإسناد ناري على وادي هلال.. المغامرة" إلى أدق التفاصيل فيقول"كل ممر عبارة عن خرسانة تأوي كل شيء، السلاح والذخائر والمغارات التي بها مهاجع الجنود وقاعات التمريض، وقطعان الماعز والأغنام، أما الماء فهو متوفر في سائر المواسم" ويواصل اعترافاته في موضع آخر"إنها قلاع دائمة ومراكز اجتماع قادة الولايات"حيث كان قادة الثورة يستخدمون جبل الجرف كقبعة لعقد الاجتماعات لما تتوفر عليه من إمكانيات مادية تسهل على المجتمعين فيه الفرار و الانسحاب والاختباء في مغاراته التي لا تصلها المدافع وقنابل الطائرات"،ويتابع هذا الطيار الذي سبق له أن شارك في حرب فيتنام وأوروبا وصف الجرف فيقول"هضبة الجرف عظيمة خالية من الترحيب والاستضافة"، مستعرضا في مذكراته التي صدرت عام 1960 عن الإسناد الذي تلقته القوات الاستعمارية والحشد الذي توجه لمعركة الجرف بقوله"وضعت القيادة العامة كل وزنها، فالقائد الكبير تنقل بنفسه من مدينة الجزائر إلى هنا، عمليا كل القوات المتوفرة في أوراس النمامشة، وتبسة، وأريس، وخنشلة، إلى نقرين هرعت في الليل للمحاصرة،،،جاءت بسائر الطائرات العمودية من مطار سطيف وتلاغمة وحطت بالجرف"، ويؤكد تصريح القائد الفرنسي حجم الإمداد الذي قدره المجاهدون بنحو 40 ألف جندي مدعمين بأسطول جوي وآليات ضخمة لتطويق زهاء 400 مجاهد حاضر بهذه المعركة، غير أن المجاهدين الحاضرين يومها أظهروا قدرة فائقة على حرب العصابات من خلال اختيار المكان والزمان وتوقيت المباغتة والانسحاب والكر والفر لإنهاك قوات العدو، وهي التكتيكات التي لم تنفع معها الطائرات والمدرعات، وفي هذه النقطة اعترف ضباط الجيش الفرنسي بحسن تنظيم ما كانوا يسمونه "بالفلاقة" وبضراوة المواجهات وبصلابة المجاهدين، كما أقروا بعائق التضاريس الوعرة التي ساهمت هي الأخرى في حماية أعدائهم، ولم يتوان أحدهم في نعت الطبيعة بواد هلال بالطبيعة الجهنمية وهو ما مكن من تحقيق انتصار باهر وهو الإنجاز الذي كان بمثابة زلزال قوي هز عرش فرنسا بالنظر لحجم الخسائر المادية والبشرية وتمريغ سمعة جيشها في وحل الجرف الأشم. استشهاد 170 مجاهدا في معركة غير متكافئة وتروي جميع المصادر بأن هذه المعركة انتهت بقتل بين 600 و 700 جندي وإسقاط وعطب نحو 20 طائرة وإصابة 10 دبابات و30 مزنجرة، فضلا عن غنم 150 قطعة سلاح، فيما استشهد فيها نحو 170 مجاهدا وجرح بين 40 و50 آخر ممن كان لهم شرف المشاركة في هذه المواجهة غير المتكافئة، وهي المواجهة التي قال بشأنها أحد الضباط الفرنسيين "إذا قدر لديان ديان فو الثانية أن تقع في الجزائر فواد هلال هو مكانها" بالنظر لحجم نجاحها، فهذا المجاهد العيد بوقطف يؤكد في شهادته بأن المعركة حضرها عدة قادة من جيش التحرير بينهم شيحاني بشير، سيدي حني، فرحي ساعي، عجول عجول، عباس لغرور والوردي قتال –كاتب القيادة-، مضيفا في السياق ذاته بأن المعركة انتهت بمقتل 700 عسكري وجرح أكثر من 350 عسكري فرنسي، فضلا عن إسقاط 3 طائرات وحرق 5 شاحنات عسكرية و4 دبابات واسترجاع 70 بندقية متنوعة من العدو، فيما لم تتعد خسائر المجاهدين 70 شهيدا وجرح 15 مجاهدا آخر، أما المجاهد والقائد الوردي قتال أحد صانعي هذه الملحمة الذي لا زال على قيد الحياة يحصي في أحد أعداد مجلة الجيش نتائج المعركة فيقول"لقد إستقال عدد من نواب البرلمان الفرنسي بسبب استعمال جيشها للقنابل الغازية المحرمة دوليا، فضلا عن تسجيل القضية الجزائرية وجدولتها في هيئة الأممالمتحدة، أما في المجال الاقتصادي فقد تكبدت فرنسا خسائر بحوالي مليون فرنك فرنسي يوميا ولمدة أسبوع كامل، كما تضررت ميزانية الحكومة مقدرا عدد قوات فرنسا المشاركة في معركة الجرف بنحو 40 ألف، واستنادا لرواية المتحدث فإنه تم إسقاط 4 طائرات وتحطيمها عن آخرها ولا زالت شواهدها باقية لحد الآن"، من جهته المجاهد الرائد والأمين الولائي الحالي للمجاهدين إبراهيم قاسمي فيفضل وضع قراء "النصر" في الجو العام الذي وقعت فيه المعركة بين 22 سبتمبر 1955 إلى غاية 29 سبتمبر من نفس العام، موضحا في إفادته بأن المجاهدين لم يكونوا ينوون الدخول مع العدو في معركة كبيرة من هذا الحجم بالنظر لتباين الإمكانيات المسخرة لكل طرف، غير أن تطور الأحداث وتسارعها فرض عليهم القتال بهذه النقطة الملتهبة التي تعد ملجأ للأحرار والرافضين لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية في الجيوش الفرنسية وكذا الفارين منها بأسلحتهم وذخائرها، ويضيف المتحدث بأنها تعد كذلك حصنا منيعا لكل المطاردين من الإدارة الاستعمارية وأجهزتها الأمنية لسبب أو لآخر، بالإضافة إلى استعمال الموقع كمستودع كبير لتجميع السلاح بعد الثورة التحريرية، واستعماله كنقطة إلتقاء لقادة الناحية على غرار شيحاني بشير، مشددا على أن قوات الطرفين لم تخطط مسبقا لهذه المعركة ولكن تواجد قادة الولاية التاريخية في تلك الأيام وترؤسهم لسلسلة اجتماعات وخاصة "برأس الطرفة" كان الفتيل الذي ألهب المنطقة ودفع بفرنسا إلى الاعلان عن حالة الطوارئ، وتوجيه قواتها وآلياتها بسرعة نحو الجرف على أمل اقتناص هذا الصيد الثمين، وتحقيق جرعة أكسجين للجيش الفرنسي الذي لم يتمكن رغم مرور عام من إخماد شعلة ثورة أول نوفمبر، ويضعنا لاحقا الأمين الولائي لمنظمة المجاهدين في مشاهد الثلاثة أيام وأربعة ليال متواصلة للمعركة، حيث ينقلنا في البداية إلى سلسلة اللقاءات التي عقدها القائد شيحاني بشير الذي خلف مصطفى بن بوالعيد بعد استشهاده مع المناضلين والمواطنين لتوعيتهم ووضعهم في صورة ماذا تحقق بعد عام من الثورة، وهي الاجتماعات التي حضرها أغلب قيادات المنطقة الأولى في صورة عباس لغرور، عاجل عجول، فرحي ساعي، بشير الورتلاني وغيرهم،،، فرنسا كانت تريد صيدا ثمينا يعيد الإعتبار لجيشها بعد فشله في إخماد لهيب الثورة غير أن فحوى تلك الاجتماعات قد تهادى إلى مسامع فرنسا لتتحول بجنودها إلى هناك، ويقع أول صدام بين الطرفين بالمنطقة المسماة "فرطوطة" (10 كلم إلى الشمال من موقع الاجتماع) ،وقد انتهى الاشتباك باستشهاد القائد محمد عجرود ونحو 30 من فصيلته، ليتقرر بعد مشاورات البقاء بالجرف والتحصن فيه ومباغتة العدو بعمليات خفيفة، ولم يتوان الجيش الفرنسي على إمطار المنطقة بأطنان من قنابل الطائرات وقذائف المدفعية والدبابات وتكرر المشهد 3 أيام كاملة مع وجود مقاومة شرسة من المجاهدين، غير أن كثافة النيران خلقت ثغرات في الخطوط الدفاعية للمجاهدين لتتمكن الدبابات الفرنسية من دخول الجرف وهو ما دفع بشيحاني إلى الإنسحاب مع رفاق السلاح تحت جنح الظلام ورغم قلة المأكل والمشرب وعدم النوم فقد استبسلوا في المقاومة، وحاول بعضهم الانسحاب أثناء سقوط الأمطار غير أنهم اصطدموا بفيلق من الخيالة المغاربة الذين كانوا يحملون الأسلحة والذخيرة وإمدادات لوجيستيكية على ظهور البغال للفرنسيين، فكان الصدام حسب الراوي داميا ودمويا ولأول مرة يستخدم السلاح الأبيض وحراب البنادق ورددت سماء وادي هلال تكبيرات المجاهدين وصراخ عساكر العدو، وتمكن المجاهدون إثر ذلك من الاستيلاء على 70 بغلا بحمولتها، ليتخلوا عنها لاحقا حتى لا تكون عبئا عليهم أثناء الخروج الذي كلفهم غاليا رغم خروجهم في مجموعات قصيرة، واستغل الجيش الفرنسي الدفاعات المنهارة للمجاهدين لدخول القلعة التي كان بها عدد من الشهداء ومجاهدين اثنين أعاقتهما جراحهما على الحركة فقام الضباط بإعدام أحدهما المدعو محمد السدراتي في الحين وفصل جمجمته عن جسده وتثبيتها في مقدمة إحدى المصفحات، ولم يكتف الاستعمار وأذنابه بذلك بل أوتي بجثته لمدينة الشريعة بولاية تبسة وهي على تلك الحالة يجوبون بها شوارع المدينة وذلك لترهيب الناس وتخويف السكان، كما تم حرق العشرات من المنازل وإبادة المئات من رؤوس الماشية انتقاما من المجاهدين والمتعاطفين مع القضية الوطنية، أما بالنسبة للقيادة فقد نجت هي الأخرى ، بحيث رفض شيحاني و6 من رفاقه الخروج من مخبئهم ورغم استعمال الجيش الفرنسي لقنابل الغاز الممنوعة دوليا إلا أن العناية الإلهية مكنت هؤلاء السبعة من الصمود لمدة أسبوع بلا ماء ولا مأكل وتحت الرطوبة الخانقة، وحسب المجاهد العيد بوقطف فقد ظل القائد شيحاني داخل الغار بجبل الجرف رفقة سديرة عبد العزيز وسامي محمد وعون الله بوساحة ومحمد الصغير وعبد الحميد وعلي معافي لأكثر من أسبوع، ليتمكنوا من الخروج بعد أن نجح المجاهد "علي المعافى" في استحداث كوة صغيرة والخروج منها والتسلل ليلا عبر نفق باتجاه وادي الجرف إلى أن وصلوا حسب الوردي قتال إلى بئر الزريق ومنها إلى القلعة، لتنتهي هذه الملحمة بانتصار عريض. وقد وجه المجلس الشعبي الولائي مؤخرا التماسا لوزير المجاهدين الطيب زيتوني لترسيم معركة الجرف ضمن الاحتفالات بالأيام والأعياد الوطنية. و آخر لوزيرة البريد وتكنولوجيات الإعلام و الاتصال لاستصدار طابع بريدي يخلد هذه المعركة.