«على الذين أشعلوا حريق جبال بني صالح و غيرها من الجبال الأخرى بقالمة أن يدركوا جيدا بأنهم ارتكبوا كارثة بيئية و دمروا تركيبة الحياة البرية التي ظلت قائمة بالمنطقة منذ آلاف السنين» بهذه الكلمات المؤثرة بدأ محافظ الغابات بقالمة بشير دينار حديثه لجريدة النصر عندما زارته بمكتبه في مقر المحافظة المتواجد بحي مقام الشهيد بالضاحية الشمالية لمدينة قالمة التي أصابتها لعنة الحرارة و الحرائق و حولتها إلى جحيم لا يطاق عندما أصبحت مصنفة كأسخن منطقة بالمغرب العربي في النصف الأول من شهر أوت الجاري ليس بسبب موقعها المنخفض و جبالها التي تحول دون وصول التيارات الهوائية الباردة فقط بل أيضا بسبب عبث الإنسان الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى عدو للطبيعة يعيث فيها حرقا و تدميرا متعدد الأشكال. تحدث الرجل بأسى كبير عن ما حدث في بداية شهر أوت 2017 بجبال بني صالح الشهيرة التي ظلت الرئة التي تتنفس بها عدة ولايات بالمنطقة و مصدرا للتنوع البيئي و التوازن الإيكولوجي، كان ملما بعلوم الطبيعة و الحياة و يعرف جيدا الحياة البرية و أهميتها و يعرف جيدا ماذا سيحدث عندما تنهار الطبيعة بموقع ما على سطح الأرض و يكون هذا الانهيار على يد الإنسان كما حدث هذه الصائفة بقالمة و غيرها من مناطق الوطن الأخرى التي مستها الحرائق المهولة و حولتها إلى رماد. بني صالح أغنى منطقة بالجزائر في التنوع البيولوجي قبل الحديث عن مخلفات الحريق الكبير و تأثيره المدمر على الحياة البرية بالمنطقة تطرق محافظ الغابات بقالمة إلى تركيبة الحياة الطبيعية بجبال بني صالح و عرف مكونات التنوع البيئي ( الإيكوسيستام ) قائلا بأن المحمية المصنفة تتكون من أصناف نباتية و حيوانية متعددة تشكل مع بعضها البعض نظاما بيئيا متناسقا كأنه سلسلة مترابطة ذا تحطمت حلقة منها أصيبت الحلقات الأخرى بالضرر و هذا ما حدث بعد حريق جبال بني صالح الذي دمر نحو 5 آلاف هكتار من الغابات و الأدغال و قتل و هجر عدة أصناف من الحيوانات و النباتات و الطيور و الزواحف و ألحق ضررا كبيرا بالتربة و مصادر المياه الجوفية و السطحية. و يتكون النظام البيئي بجبال بني صالح من 3 عناصر رئيسية، الغطاء النباتي، الحيوانات المختلفة الأنواع و أخيرا التربة و المياه و لكل مكون من هذه المكونات الثلاث خصائصه و دوره في الحياة البرية و التوازن الإيكولوجي. و تعد جبال بني صالح اغني منطقة بالجزائر من حيث التنوع النباتي حيث توجد بها أصناف عديدة و في مقدمتها أشجار الفلين و الزان و الكاليتوس بالإضافة إلى الغطاء النباتي الثانوي المكون من الضرو، القندول، العليق، الديس، بوحداد، الريحان، الزعتر، الزعرور، البرواق، العنصل، الخزامى، إكليل الجبل و غيرها من النباتات العطرية و نباتات الزينة النادرة و هبتها الطبيعة للإنسان لكنه دمرها في لحظة جنون و طيش قبل أن يفيق على حجم الكارثة و اللعنة التي ستضل تلاحقه مدى الحياة. و توجد في بني صالح حيوانات و طيور و زواحف و حشرات متعددة و في مقدمتها حيوان الأيل البربري الجميل و الخنزير و الذئب و الثعلب و النمس و الأرنب و الزيردة و الضربان و القنفذ، و تعيش هذه الحيوانات مع عدة أنواع من الطيور بينها الحجل و البوم و العصافير المتعددة الأشكال و الأحجام إلى جانب الحشرات و الزواحف التي تمثل سلسلة قوية في دورة الحياة البرية بالمنطقة. هجرة جماعية للطيور و سدود مهددة بالتوحل الحريق بالنسبة للمجرمين غير العارفين بمكونات الطبيعة و التوازن الإيكولوجي هو تدمير مساحة من الغابات و الأحراش لتوفير مرعى أو كمية من الفحم و توسيع مساحة حرث أو بناء منزل أو مشروع استثماري، لكن بالنسبة للمهتمين بعلوم الطبيعة و البيئة و الصحة و التغير المناخي و الاقتصاد فإن حرق غابة هو جريمة في حق البيئة و الإنسان و الحيوان قبل أن تكون جريمة اقتصادية كما يقول محافظ الغابات بشير دينار متحدثا للنصر عن الآثار الناجمة عن حريق جبال بني صالح بقالمة. «ماتت حيوانات و طيور كثيرة و هربت أعداد أخرى في هجرة جماعية كبرى إلى مواطن أخرى ليست بيئتها الأصلية، هذه الهجرة القصرية ستنجر عنها مخاطر كبيرة لهذه الحيوانات و الطيور من حيث الصحة و التكاثر و السلسلة الغذائية، و ستؤدي هذه المخاطر إلى اختفاء بعض أنواع الطيور و الحيوانات من جبال بني صالح و من الصعب عودة الحياة البرية إلى حالتها الطبيعية قبل عدة سنوات، حتى بعض أصناف النباتات ربما ستختفي لسنوات طويلة و قد لا تظهر مرة أخرى، الأمل فقط معلق على بعض أنواع البذور المقاومة للحرارة تحت الأرض ربما تنمو خلال السنوات القادمة و تعطي كائنات نباتية جديدة، و ربما تلعب الطيور و الرياح دورا في جلب البذور و المساهمة في إعادة الحياة من جديد إلى بجبال بني صالح». و يقدر عدد رؤوس الأيل البربري في المنطقة بنحو 50 رأسا و كان من المتوقع أن يرتفع تعداد القطيع في غضون السنوات القليلة القادمة قبل حدوث الكارثة التي يعتقد بأنها أصابت و هجرت قطيع الأيل البربري و ربما تكون قد قتلت رؤوسا أخرى غير إنه لم يعثر لحد الآن عن أيل بربري ميت في انتظار المسح الشامل للمساحات المحترقة. و يعد الأيل البربري من بين الحيوانات النادرة المهددة بالانقراض في الجزائر و تعمل عدة هيئات على حمايتها و توفير الظروف الملائمة لتكاثرها، لكن الحرائق المتواصلة و تقلص الغطاء الغابي و التغيرات المناخية المتسارعة حالت دون ذالك و ربما ستؤدي إلى اختفاء بعض أنواع الحيوانات و حتى الطيور بالجزائر. و أثر حريق بني صالح تأثيرا كبيرا على الطيور و الحشرات و النباتات و الأشجار الاقتصادية و أصاب التربة و مصادر المياه إصابات بالغة حيث يتوقع حدوث انجرافات و توحل لسدود المنطقة بعد أن ظلت غابات بني صالح مصفاة للمياه و مانعة لظاهرة الانجراف التي تؤدي إلى التصحر و تدهور النظم الطبيعية. و عرف محافظ الغابات التصحر بأنه تراجع و انهيار مساحات أرضية موجودة بالمناطق الجافة و شبه الجافة و شبه الرطبة تحت تأثير عدة عوامل منها التغير المناخي و الأنشطة البشرية، و تعد الحرائق من بين عوامل التصحر إلى جانب الحرث العشوائي و الرعي الجائر. احتراق اشجار و نباتات عطرية قال بشير دينار بأن الحرائق مصنفة في المرتبة الرابعة في قائمة الكوارث الطبيعية الكبرى لما تخلفه من دمار و تأثير كبير على الاقتصاد و السياحة و الصحة و النظم البيئية، كما حدث في حريق جبال بني صالح أين تكبد الاقتصاد الوطني خسائر كبيرة بعد احتراق أشجار الفلين و الزان و الكاليتوس و النباتات العطرية و نباتات الزينة، متوقعا أيضا انخفاض سقوط الأمطار بالمنطقة خلال السنوات القادمة بعد تقلص الغطاء الغابي الكثيف الذي كان يجلب الأمطار و يحفظ التوازن البيئي بالمنطقة. و تطال كارثة الحريق كل الكائنات الحية تقريبا كالحيوانات و النباتات و الطيور و الزواحف و تصل إلى التربة و مصادر المياه و تؤثر تأثيرا بليغا على حياة السكان المجاورين للمناطق المحترقة، و تؤدي حرائق الغابات أيضا إلى التعرية و الانجراف و الفيضانات و طمي السدود. السياحة و البحث العلمي قطاعات أخرى متضررة أطلقت سلطات قالمة مشروعا كبيرا لبناء منتجع سياحي طبيعي وسط جبال بني صالح و بعد الحريق تحول الحلم إلى رماد و أصيب قطاع السياحة الجبلية في الصميم حيث كان يتوقع تدفق آلاف السياح على المحمية بعد إنهاء مشروع المنتجع الكبير و هذه واحدة من الخسائر الكبيرة التي خلفها أحد أسوأ الحرائق بالمنطقة منذ عقود طويلة. و غابات بني صالح الواسعة ليست سياحة و موردا اقتصاديا فقط بل هي أيضا قبلة للباحثين القادمين من مختلف جامعات الوطن لدراسة النظم البيئية و متابعة دورة الحياة هناك و دراسة أنواع الحيوانات و النباتات، و حسب محافظ الغابات فإن بعض طلبة الدكتوراه يعملون حاليا بجبال بني صالح لدراسة النظام البيئي و متابعة حياة الكائنات الحية. و يعتقد بأن بعض الأبحاث العلمية قد تتأثر بعد الحريق و يحتاج طلبة العلم و كبار الباحثين إلى سنوات طويلة حتى تتعافى المحمية الشهيرة و تعود إليها مجتمعاتها من جديد. و كانت ولاية قالمة تعول كثيرا على السياحة الجبلية ( إيكو طوريزم) لتطوير الاقتصاد المحلي و جلب مزيد من السياح من مختلف مناطق الوطن لرؤية الأيل البربري و الطيور النادرة و مختلف أصناف الأشجار و نباتات الزينة و النباتات العطرية و حتى الطبية المنتجة للزيوت المفيدة كالضرو و الريحان و الزعتر لكن الحريق دمر كل شيء و عطل مشاريع السياحة البحث العلمي و كبد الاقتصاد خسائر معتبرة. إجراءات ما بعد الكارثة تعتزم محافظة الغابات بقالمة القيام بإجراءات ميدانية بعد كارثة الحريق في محاولة لإعادة الحياة إلى الإقليم الأسود و ذلك بقطع الأشجار المحترقة و تطهير الغابة و تنظيفها و ربما ستطلق المديرية العامة للغابات عمليات تشجير واسعة لتجديد الغطاء النباتي و توفير ملاذات جديدة تسمح بعودة الطيور و الحيوانات الهاربة إلى موطنها الأصلي من جديد. و لا يستبعد أيضا بناء المزيد من المسالك الحراجية و شق الخنادق المضادة للحرائق و مواصلة إجراءات منع الصيد بالمنطقة و حث السكان المحليين على التحلي باليقظة و المسؤولية تجاه الغابات لحمايتها من كل أشكال الاعتداءات و في مقدمتها الحرائق التي تحولت إلى خطر كبير يهدد البيئة و الاقتصاد الوطني. و أنهى محافظ الغابات بقالمة حديثه للنصر بتوجيه نداء إلى المواطنين و السياح للوقوف إلى جانب المحافظة و التصدي للمجرمين و حماية ثروتنا الغابية المهددة بالزوال تحت تأثير التغيرات المناخية و الاعتداءات، آملا أن لا تتكرر كارثة صيف 2017 حتى تتعافى غاباتنا و تعود الحياة البرية إلى طبيعتها من جديد.