سوق العصر.. وجهة أولى للفقراء هزمت جشع التجارة «سوق العصر حبيب المسكين» مقولة قديمة لازمت سوقا شعبيا يتوسط المدينة القديمة بقسنطينة، بإحدى الدروب الضيقة المؤدية إليه في شارع «رود فرونس»، وفيما اختلف الباحثون والمؤرخون في سبب التسمية والتاريخ، يبقى الأكيد انخفاض أسعار الخضر والفواكه وحتى القماش وألبسة الأطفال والنساء به، مقارنة بباقي المساحات التجارية والأسواق، ما يجعل منه «سوق رحمة» بإمتياز . فاتح خرفوشي يربط الكثيرون سوق العصر الشعبي بمدينة قسنطينة وشريحة الفقراء والمساكين، نظرا لإنخفاض الأسعار عموما به بشكل واضحٍ، وهو تقليد تمَّ توارثه، على حدِّ أقوال الباحثين في التاريخ، منذ عهد الدولة العثمانية، ويتوارث التجَّار هذا التقليد عن الأجداد، بالابتعاد عن المغالاة ورفع الأسعار بدون مبرِّر مثلما هو عليه الحال في بقية الأسواق، كما لم يعد سوق العصر حكرا على الفقراء فقط، بل صار ميسورو الحال أيضا يقصدونه. ولا يقتصر وصف السوق ب»حبيب المسكين»، على نوعية الزبائن، بل لكونه مقصد التجار من أصحاب الفلاحة المعاشية والمساحات الصغيرة، حيث يتوجهون إليه لبيع منتوجاتهم المحلية، غالبا، وكان أشهر الباعة فيه هم بائعو الليمون والحشيش على غرار «الدبشة» و»المعدنوس» و»الكرافس»، وبعض الخضروات الموسمية والفواكه، القادمين أساسا من الحامة. وتوجد بالسوق كل أنواع الخضر والفواكه الموسمية، تحديدا، كما كان خلال السنوات الفارطة يعتمد على المنتوجات المحلية التي يكثر الطلب عليها، والقادمة من الحامَّة، بالدرجة الأولى وبعض الجهات الأخرى على شاكلة مسعود بوجريو وابن زياد وضواحي عين الباي والخروب، من الزراعات المحلية، إلى جانب اللحوم البيضاء والحمراء، خصوصا سمك السردين، دون نسيان تجارة الأقمشة وبيع الألبسة الجاهزة للأطفال والنساء، والتي يكثر الطلب عليها أيضا للأسعار المنخفضة. من «شالة بالة» إلى هوامش ربح تضمن التنافسية في جولة استطلاعية لسوق العصر، حاولت «النَّصر» معرفة سرِّ الإنزال الكبير للزبائن على السُّوق والأسعار المنخفضة بشكل ملحوظ مقارنة بباقي المجمعات والمساحات التجاريّة، وفعلا يلاحظ العام والخاص أسعارا جدُّ تنافسية نظرا لعدم تجاوز الكيلوغرام الواحد من المشمش 120 دج، والفراولة 110 دج، في حين تباع ذات الفاكهة وبنوعية رديئة بضعف السعر في المحلات الأخرى، أما البطاطا إحدى المواد الأكثر استهلاكا في قسنطينة وخاصة الشهر الفضيل، فتتراوح بين 40 دج لمتوسطة الحجم و45 إلى 50 دج للحجم الكبير ، والباذنجان ب60 دج وكذلك السلطة الخضراء، كما لاحظنا تدني سعر الفاصولياء الخضراء التي قفزت بشكل قياسي في بداية الشهر الفضيل إلى 450 دج، والذي لم يتجاوز عتبة 110 دج في سوق العصر. كما تعتبر أسعار اللحوم البيضاء والحمراء، على قلة محلاَّت القصابة في هذا المقصد التجاري الكبير، مقبولة جدا، لكنَّ اللافت للانتباه هو قدرة أصحاب الأسر المتعددة والدخل الضعيف الحصول على كيلوغرام من السردين الجديد، ولو كانت صغيرة الحجم نسبيا، بسعر 200 دج لا أكثر، وهو الأمر المستحيل تماما بأيَّة جهة ونقطة بيع في قسنطينة. سألنا أحد الباعة القدامى في سوق العصر وهو «سمير» عن تقاليد هذا المكان، أحد معالم المدينة القديمة ومقصد عامَّة الناس من الطبقة الفقيرة، فذكر لنا أن البائع عندما يقرر العمل هنا، عليه احترام أوَّل قاعدة وهي توفير الخضر والفواكه وكافة السّلع بثمن بخس، واعتماد قاعدة هامش ربح ضئيل مع محاولة استمالة الزبائن لاقتناء أكبر معدَّل بيع، وهو ما سيسمح له بالعيش في سعة وتوفير قوت يومه، مع مراعاة هذا الجانب الإنساني الذي يكاد ينعدم في أيَّامنا هذه بقانون التجارة، وهو الجشع والاحتكار والبيع بضعف الثمن. كما رجع بنا هذا الكهل إلى سنوات الثمانينات والتِّسعينات، حيث أكَّد أنه عاصر تقليدا ربما يكون سبب تسمية هذا التجمع التجاري بسوق العصر، حسب قوله، وهي البيع «شالة بالة» كما يشاع تسميته في الشارع القسنطيني، حيث يبيع التَّاجر الخضر والفواكه دون وزن ولا تقيم سلعته بسعرها الحقيقي، وهو ما يشبه «الدلالة»، فيطالب التَّاجر الزبُونَ بمنحه سعرا وفي حال رآه مناسبا يبيعه مباشرة، حتى يستكمل ما تبقَّى من السلعة سريعا وينصرف لصلاة العصر، حيث من النادر العثور على تاجر يبيع بعد هذا الوقت من اليوم. واستفزنَّا أحد الشيوخ بالحديث عن رائحة رمضان قديما، وسوق العصر والسويقة، فسألناه عمَّا يتذكره بخصوص هذا السوق الشعبي بامتياز، فقال أنه يرتاده حتى ولو لم يكن بحاجة إلى مقتنيات، لكنَّه يعتبر حسبه معلما من معالم المدينة، وليس مقصدا للفقراء وضعيفي الدخل لقضاء احتياجاتهم من الخضر والفواكه، متذكرا صرخات التجار لما كان شابا بالقول فيما معناه «من لديه سيملأ القفة وكذلك من لا يملك شيئا». الطاولات الفوضوية تتطلب حلاًّ جذريا تقدَّمنا مرة أخرى من أحد الباعة الشباب، وسألناه عن كيفية تنظيف المكان بعد الانتهاء من النشاط مساء، فتنهَّد قبل الإجابة، وردَّ بشكل صريح «كان سوق العصر الأنظف على الإطلاق في وقت قريب، لكنَّنا اليوم نعاني من مشاكل النظافة والاكتظاظ والطاولات الفوضوية التي تنتشر مثل الطفيليات وتزيد يوميا، كنا نعتمد على أنفسنا في تنظيف مساحة كل تاجر، ووضع البقايا والنفايات في مكبّ قديم يعود للعهد الاستعماري، وتنزل أسفل مكان السوق، لكنَّ أصحاب التجارة الموازية لا يحترمون هذا الأمر».