هل من الصعب أن يكون المثقف مستقلا. ولماذا لا يمكنه هذا. رغم ما حققه من وجود عبر المؤلفات الورقية والمواقع والميديا إلاّ أنّه لم يصل ربّما بعد إلى مرتبة الاستقلالية الحقة أو لقب «المثقف المستقل». لكن الأسطوانة التي يرددها المثقف غالبًا مؤداها: أنّه يتمتع بهذه الاستقلالية مُرددا أنّ «المُثقف المُستقل» موجود حقيقة لا وهمًا. إستطلاع/ نوّارة لحرش من جهة أخرى هل يمكن القول أنّ الخطاب السياسي المُهيمن والخطاب الديني المُتشدّد ساهما معًا في تعطيل وجود أو بروز -هذا المثقف المُستقل- وتكميم خطابه وصوته بطرق مختلفة ومتباينة. أيضا ما الّذي يلزم/ وما الّذي يجب حتى يحقق المثقف المُستقل وجوده الفعلي والفعّال. وحتى تتخلص عبارة/جملة «المثقف بين الوهم والحقيقة» من إرباكات السؤال وإكراهات الشك والتشكيك. حول هذا الشأن «المثقف بين الاستقلالية والاستقالة»، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأكاديميين والمثقفين، الذين تناولوا المسألة من جوانب مختلفة. محمّد بن ساعو/ أستاذ وباحث أكاديمي – جامعة سطيف2 المثقف غير مستقل وهو مستقيل عن مجتمعه وتطلعاته لا شك أنّ البيئة السياسية والثقافية في العالم العربي وفي الجزائر على وجه الخصوص -والتي تتّسم بالانغلاق والنمطية- تُعادي استقلالية المثقف، بل وتحاول إجباره على الخضوع والاصطفاف وخدمة (مشروع) معين، وهو ما ينعكس على دوره وفعاليته، إذ لا يمكن أن ننتظر الكثير من مثقف اختار أو اُختير له الانخراط في منظومة قد يرفضها من منطلق قناعاته وتصوّراته، لكنّه يتماهى معها في واقعه وممارساته، بل ويصبح مُدافعًا شرسًا عنها في بعض الأحايين، لأنّه يعتقد أنّها الجدار الّذي يستند إليه والمظلة التي يحتمي بها والمورد الّذي يضمن اقتياته من الفتات، ويعتقد أنّه بزوالها سيفقد امتيازاته ومكانته المتوهمة، وبهذا المنظور يصبح المثقف أشبه ما يكون بالمرتزق الّذي يقدّم خدماته لمن يدفع، وليس ذلك المثقف العضوي الّذي يتبنى أفكارا وأطروحات يُدافع عنها ويحاول أن يجد لها طريقا في واقعه مهما كانت الضغوطات والإغراءات. لقد أفرزت الأنظمة الشمولية الرافضة للأصوات المختلفة تقاليد خطيرة تجعل ممن يتقلّد أي منصب أو وظيفة مُلزمًا بالانصياع لها والانخراط في حمايتها، حيث عملت على تسييج كلّ المنافذ التي قد تُمكّن المُثقف من ممارسة سلطته وتوجيه المجتمع والإسهام في صناعة الرأي العام؛ وحتى وإن ظهرت في بعض الفترات بوادر الانفتاح الديمقراطي -الشكلي على الأقل- إلاّ أنّ المثقف يبقى دائمًا مسكونَا بهواجس الرقابة الذاتية والتوجيه، فيضطر إلى أن يُمارس على نفسه توجيهًا بالنيابة، وكأنّه أضحى مُبرمجًا على آليات معينة يحاول دائمًا الاشتغال وفقها تجنبًا للاصطدام مع أي طرف يعتقد أنّه يمثل سلطة الرضا والغضب، وبهذا ندرك أنّ النظام نجح إلى حد بعيد في غرس آليات رقابة ذاتية لدى المثقفين ضمن تقاليد تكرّست خلال سنوات من محاولات التكميم والتضييق على الأصوات بطُرق مباشرة أو غير مباشرة. أمّا مسألة وجود فضاءات بديلة للمثقفين من أجل التعبير الحر كالنشر والكتابة الصحفية والظهور من خلال المحطات الإعلامية، فينطبق عليها ما ذكرناه سالفًا، لأنّ جل هذه المنابر محكومة بنفس الآليات، وإن كان شعور المثقف بأنّ هذه الفضاءات ستمنحه هامشًا من الحرية، إلاّ أنّه يبقى دائمًا يشعر بتلك الموانع الحقيقية أو المتوهمة التي تقف في وجه التزامه كمثقف مُنخرط في قضايا مجتمعه وأمته. وعليه، فإنّنا نعتقد أنّ استقلالية المُثقف لا ترتبط بالجانب الوظيفي أساسًا، بقدر ما ترتبط بضمان الجو الديمقراطي الّذي يفرض هامشًا مُعتبرا من الحرية والإبداع، حينها فقط يمكن أن نتجاوز حالة التبعية التي يُعانيها المُثقف، عِلمًا أنّه هناك أنواع أخرى من التبعية، لعل أهمها التبعية الإيديولوجية، حيث يُعاني بعض المثقفين من الإغراق في الإيديولوجية، ورغم أنّنا لسنا ضدّ تبنّي الإيديولوجيات لأنّها مظهر صحي في اعتقادنا، لكن العيب الّذي يطرحه اعتناق بعض المثقفين لها هو تطرفهم في التعبير عنها ورفض كلّ ما هو خارج دائرتها، وبالتالي فإنّ هذا النوع من المثقفين –غير المستقلين- هم أيضا يعيشون داخل سجون رسموا معالمها بأنفسهم وسيّجوها بأفكار دوغمائية، وهي بذلك لا تختلف كثيرا عن السجون السياسية، غير أنّه سجن طوعي. والملاحظ أنّ الحراك الشعبي الّذي تعرفه الجزائر أخرج الأزمات التي يتخبط فيها المثقفون إلى العلن، فحينما يتبنى مثقف (أطروحة) فوقية تتّسم بالأمر ويُروّج لها ويستميت في الدفاع عن أصحابها، ويُعادي كلّ من يختلف معه في قراءة الوضع يتأكد لدينا حجم المعضلة التي خلّفتها لا استقلالية المثقف. والمشكلة الأعمق التي تجلّت هي أنّ المثقف وهو في طريقه للبحث عن مخارج لتحقيق استقلاليته ضل الطريق فوجد نفسه مستقيلا عن مجتمعه وتطلعاته. عبد الرزاق بلعقروز/ كاتب وباحث أكاديمي –جامعة سطيف2 المُثقف تراخى وعطّل خطاب التنوير قبل الشروع في الإجابة عن حال المُثقف بين الاستقلالية والتبعية لا بدّ أولا من الإقرار بأنّ الاستقلال هو الصورة التي يجب أن يكون عليها المثقف، لأنَّ رسالته التاريخية هي بناء العالم الثقافي للإنسان، وهو بناء لا يرتهن إلى نماذج ضيقة أو مرجعيات محدودة، بقدر ما يُخاطب الإنسان مُجردا عن هذه الانتماءات والرهانات المصلحية، لأنّ الثقافة هي المكون الروحي في الإنسان ورصيده الّذي يتأسس على عالم الأفكار خاصة الأفكار الناهضة والحافزة. من هنا فإنّ المُثقف المُستقل ليس بالأمر اليسير، لأنّ وجوده سيرتبط بالكفاح الثقافي والسير بالمجتمع لأجل تبصيره دومًا والأخذ بيده نحو القيم الإنسانية. ومن الأكيد خلال هذا المسار أن يُواجه المثقف مطالب من فئات سياسية أو رؤى ثقافية كأن يصطف معها أو يكون فلكًا تابعًا لمجموعتها. وهذه المطالب في صميمها ستقوم بتعطيل الدور الحيوي للمُثقف الّذي يمكن أن نسميه بمثقف الأمة، مع أنّ الأمة هنا ليست هي مجرّد أفراد المجتمع، وإنّما هي أفراد المجتمع بما هم حاملين لرسالة سامية في التاريخ، وهذا هو الدور الأصلي للمُثقف، أي القيام بمهمة تنوير المجتمع والتحرّر من الوصاية الثقافية الظرفية، والوفاء لهموم المجتمع الثقافية والارتقاء بها من رتبتها الطبيعية إلى رتبتها الصناعية أو من ثقافة الجمهور إلى ثقافة المفاهيم والمصطلحات العليمة. وبهذا يكون المُثقف المستقل هو صمام أمان الثقافة الناهضة من خلال ارتكازه على ثلاثية: الانتماء الأصيل والفعالية والعالمية. وهكذا، فإنّ المُثقف المستقل وإن كان غير مُتحقق عينيًا، إلاّ أنّه من اللازم أن يتحقق واجبيًا، فوجوده من قبيل الواجب وليس من قبيل الواقع. أمّا بخصوص تأثير الخِطاب السياسي والخِطاب الديني المُتشدّد على المُثقف المُستقل، فهو مشهود في مجرى حياتنا الثقافية، والعيب ليس في هذه الخطابات الباحثة عن نماذج ثقافية تابعة، وإنّما العيب هو في تراخي المُثقف وعجزه عن شق عصا الطاعة، أو بالأحرى تعطيله لشعار التنوير الّذي رسم أفق الفكر للإنسان وهو شعار: اجرء على استخدام فهمك الخاص، فهذا هو شعار التنوير الّذي أرى أنّ فترة صلاحيته لم تنته بعد، فما إن يتوقف المُثقف عن التفكير باستقلالية وحرية وعن الاعتداد بالذات، حتى يجد نفسه مرآة عاكسة لخطابات أخرى تحكمها الرهانات المصلحية التي تضرب أية رؤية ثقافية متجذرة وعالمة. لأنّ وفاء المُثقف المُستقل هو للقيم الإنسانية السامية، ولرسالته التنويرية للعالم، ومن هذه الأمور يكتسب قيمته ككيان مُؤثر في مجرى المجتمع والتاريخ. وعلى هذا، فإنّ التثقيف أو تقويم الاعوجاج الفكري والسلوكي مشروطٌ بالمحافظة على الاستقلالية. وفضلا عن هذا، فإنّ المُثقف أيضا ليس هو ذلك الّذي لا لون له، وإنّما من حقه أن ينتمي إلى مدرسة فكرية أو اتجاه معرفي مخصوص، تمنحه أدوات في القراءة تمكنه من بناء رؤية إلى العالم من حوله وكذا كيفية التأثير فيه. إنّ المُثقف المُستقل لن يتحقق إلاّ بالقراءة والحوار والتواصل والانفتاح على العالم، فهذه السّمات تخلق لنا في وعينا أهمية التزام مبدأ المسافة مع السلطان السياسي ومع الخطابات الدينية المُتشدّدة، وتوجيه العقول إلى ما يجب أن يكون من قيم مُوجهة ومواقف متوازنة وحقائق متكاملة. ومتى أردنا للثقافة أن تُؤطر الوعي المجتمعي لابدّ لها أن تبقى هي السلطة والمرجع المُستقل الّذي لا يقل قيمة عن سلطة ومرجعية الفعل السياسي أو غيره من المرجعيات. فالاستقلال هو صنو الحرية والتأثير في العالم. محمّد تحريشي، ناقد وأستاذ جامعي –جامعة بشار لابدّ من وجود فضاء مُناسب حتى يحقق وجوده الفعلي والفعّال إنّ الحديث عن المُثقف حديثٌ ذو شجون يجرنا إلى قضايا فكربة ومواقف من كلّ مجالات الحياة؛ فالثقافة مُمارسة فكرية تتجسد في أعمال قد يكون لها وجود مادي أو وجود لامادي، والمثقف وفق هذا المنظور يقف عند ثالوث مُهم وهو الإيديولوجيا والسلطة والمجتمع، وبحسب علاقته بهذه الأركان تكون استقلاليته أو عبوديته، تكون حريته أو خضوعه، ويكون التزامه أو تخليه عن هذا الالتزام، ومن ثمّ يتحدّد دوره الإيجابي أو السلبي في المجتمع. تتحدّد استقلالية المُثقف بحسب مواقفه وبحسب قدرته على الشعور بالحرية في التعبير عن هذه المواقف؛ ففي بداية الإسلام ولما اشتد هجاء الكفار للرسول، دعا رسول الله قائلا: «ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بأسيافهم أن ينصروه بألسنتهم؟» فقال حسان: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه، فقال رسول الله: «كيف تهجوهم وأنا منهم؟» فقال حسان: يا رسول الله لأسلنك منهم كما تُسلّ الشعرة من العجين، فسُرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم به، وأكرمه ودعا له أن يؤيده الله بروح القدس، ووعده الجنة جزاء منافحته عنه، ونصب له منبراً في المسجد الشريف. تعاظم هذا الدور بعد ذلك مِمَا جعل المفكرين ينظرون له ومن ذلك المفكر الإيطالي الماركسي الشهير أنطونيو غرامشي (18911937) الّذي تحدث عن المثقف العضوي وعلاقته بالإيديولوجيا أو بعقيدة معينة وبالحرية وبالمعرفة، ومن ثمّ يصبح الحديث عن المثقف المستقل حديثا مُركبًا ومعقدا تتحكمه فيها تجاذبات متعدّدة ومتباينة تباين الخطاب بكلّ أنواعه منها الخطاب الديني المُتشدّد والخطاب السياسي الحاكم والخطاب الشعبوي المُنفلت. ولا نعدم نشاطا سياسيًا لما ينخرط هذا المثقف في العمل السياسي ظنًا منه أنّه يملك حرية المناورة والتنوير في مجتمع متخلف يقوم على الإقصاء والإلغاء أو على التدجيين وربّما الأدلجة إن كان نظاما شموليًا، ويُصاب هذا المثقف بنكسة أو انتكاسة أو حتى الاستخذاء لما يرى طموحه يخبو مُعلنًا أنّ حضوره هو نوع من الغياب في مجتمع يفتقد إلى الحرية أصلا، ويفتقد أدوات تعزيز الديمقراطية وتجلياتها الثقافية على الرغم من وجود الدافع والحافز والاستعداد للنشاط السياسي. ويُقسم غرامشي المثقفين إلى نوعين، الأوّل هو المثقف العضوي الّذي يحمل هموم جميع الطبقات وقضايا أمته وشعبه والّذي يستمر في العطاء جيلا بعد جيل، والثاني هو المثقف التقليدي الّذي يجلس في برجه العاجي ويعيش أوهامًا استعلائية عن المجتمع الّذي يعيش فيه. لابدّ من وجود فضاء مُناسب للمثقف المُستقل حتى يُحقق وجوده الفعلي والفعّال، ومن ثمّ فإنّ الفضاء الفكري والثقافي والعلمي والفلسفي هو بيئة مُناسبة لنشوء الوعي ونضجه، ويسهم الإعلام في بلورة الرؤية لتصبح سلطة قوية مُنتجة تسهم في تغيير عجلة التاريخ نحو تغيير شامل إيجابي أو بالأحرى ترقية الوعي ليقاوم الوعي المتخاذل والسلبي نحو أفق رحب وبنّاء. إنّ إدوارد سعيد ألح على ضرورة أن يتمسك المُثقف بقيم الحرية والعدالة وبقدرٍ من الاستقلالية عن السلطة حتى يتمكن من معارضتها للدفاع عن حقوق أفراد المجتمع. إنّ نشاط المُجتمع المدني وقيم المواطنة والعمل النقابي والعمل الخيري، كلها عناصر تسهم في بناء المثقف المستقل ليقوم بعمل تنويري في المجتمع، ويتحرّر أكثر من تلك السلطة التي تقمع عنصر الحرية لديه وتحد من سلطانها، إنّ المثقف بحاجة إلى الفكاك من قيود هذه السلطة التي تُروج لمشروع سياسي ما، وإلى التحرّر من أفكار وقناعات قد تسجنه إلى الأبد، وما أصعب أن يجد المرء نفسه ضحية البهتان والخداع والزيف لقصور منه في عِدة جوانب منها القانوني والسياسي والإعلامي وربّما حتى التنظيمي، والأدهى أن يجد هذا المثقف نفسه ضحية أهواء بعض الفقهاء وبعض المرجعيات الدينية من جهة أو ضحية مشاريع علمانية تدعي الديمقراطية والتحديث والإنسانية وهي في الواقع تُؤسس لمركزية تفكيكية تقوض كلّ القناعات السابقة ولا تقدم بديلا لها لتعلن في آخر المطاف فشلها. إنّ ثنائية المعرفة والجهل قد تكون المُتحكم في استقلالية المُثقف من عدمها، ومن ثمّ لابدّ من سلطان المعرفة للمثقف حتى يقوم بدوره بكلّ استقلالية من دون قيد أو شرط مسبق. وقد يكون المثقف مقتنعًا بتوجهات الحُكم الّذي يحكمه ولكن من دون أن يُؤثر ذلك في حريته والشعور بها وممارستها تفكيرا وعملا. سليم زاوية/ كاتب وباحث أكاديمي -جامعة الأمير عبد القادر قسنطينة استقلاليته مسألة مصيرية تتعلق بحقيقة وجوده فعلا المُثقّف هو شخصٌ نخبوي ووطني ينتج أفكارا ناضجة، ويُمثل رؤية لمشروع مجتمع، لأنّ عامّة النّاس ليس لهم وعي المثقّف ورؤيته النافذة للمشكلات القائمة، ولا يملكون بالضرورة مشاريعً لاستنهاض المجتمع الّذي ينتمون إليه. وبالتالي، فالمُثقف هو ضمير الأمة ولسان حالها وفق تعبير» إدوارد سعيد»هو من يحمل الحقيقة في وجه القوة يتبنى قضاياها ويُدافع عنها، فيعطي الحياة الاجتماعية مغزاها، ويعصرنها من خلال تصديه للمتغيرات المحلية والدولية، والبحث في أبعادها المختلفة. لذا يجب أن يتسم المُثقف بالواقعية واستقامة الفكر والعقلانية في الطرح، وأن يُعبر عن الرأي السليم، ويتحمل مسؤولية التوجيه للآخرين، ولا يكتمل الوعي عنده حتى يتحد مع القدرة والشجاعة على التعبير، ونقد الإختلالات التي يعرفها واقعه. فشخصية المُثقف التي نحن بحاجة إليها اليوم لا تكون بالمثقّف الّذي يمتلئ حِكمة وفضيلة وعِلمًا وفقط؛ وإنّما بالمُثقّف الّذي يُنتج الفعل المجتمعي، ويُؤثر ويُؤطر المجتمع، يصعب على السّلطة أو أي إيديولوجيّات احتواءه. وقادرٌ على أن يرى الحقيقة، وينظر فيها برؤية تحليلية، تجعله يمثل العقل النقدي البنّاء القائد للمجتمع. لذلك نرى بأنّ استقلالية المثقف هي مسألة مصيرية تتعلق بحقيقة وجوده فعلا، وقبوله في مجتمعنا الحالي، وفي دوره الفعّال في ممارسة وظيفته النقدية كاملة، وبالتالي لا يمكن أن نتكلم عن استقلاليته في ظل واقعنا المُعاش المُتردي الّذي قلما ما نجد فيه مُثقفًا بهذه المواصفات الطوباوية من جهة، وتأثير الواقع السياسي والاجتماعي الّذي أسقط تقريبًا كلّ النُخبة المُثقفة في أوهام الدعاية والتوظيف السياسي والإيديولوجي، والحزبي والاسترزاق الطفيلي أجهضت به كلّ مشاريع التنمية، وتطوير البناء المجتمعي. لتبقى الحرية والاستقلالية أولى القيم الكبرى التي أنتصر وسينتصر بها المثقف الحرّ في كلّ الأحوال والمجتمعات. فالمُثقّف الحر بمواصفات مرجعية تكون له الشرعية الشعبية، والمسؤولية المعنوية في ممارسة دوره الطبيعي المُوكل له في عالمنا المعاصر، وهو القيام بالمهمة التغييرية بكلّ ما فيها. فالمُثقف بهذه المواصفات لابدّ من أن يُمارس دور التنوير والتنظير والمشاركة في الحوار الثقافي العام، الّذي يُولد على أرضية الأسئلة التي تجول في عقل الفرد والمجتمع، والمتأتية بدورها من الاحتكاك والتفاعل مع الآخر، والمُتولدة من متغيرات العصر ومتطلباته، بهدف بناء الوعي بشكل مُستمر من خلال معاينة مشاكل الحاضر، وصلتها بمشاكل الماضي، وطريقة استمرار تلك المشاكل في وعي وثقافة وذاكرة المجتمع، وعبر النقد والتصحيح ومواجهة التحديات يستطيع الوعي أن يترسم مشروع المستقبل في أطره العامة. لذلك تبقى النخبة المثقفة هي أمل هذه الأمة. محمّد داود/ كاتب وباحث -جامعة وهران 1 عليه أن يُقاوم الإغراءات المُختلفة حتى يُحافظ على استقلاليته الفكرية والنقدية من المعروف أنّ مفهوم المثقف، كما هو متداول اليوم، قد نشأ في نهاية القرن التاسع عشر بفرنسا مع ما سُمي آنذاك بقضية «دريفيس» الّذي اُتهم بالخيانة العُظمى، مِمَا دفع بالكاتب الفرنسي إميل زولا إلى كتابة نص هجائي تحت عنوان «أتهم» إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك للدفاع عن «دريفيس». هذا الفعل هو الّذي أسس لمفهوم جديد هو المثقف، وهو مفهوم يشير إلى فاعلين اجتماعيين يتدخلون في مجموعة من المسائل السياسية والثقافية ويتخذون مواقف فيها تحدي لسلطة الدولة السياسية. وترسّخ المفهوم في الحياة الثقافية والسياسية الفرنسية فيما بعد لينتقل إلى العديد من البلدان، باعتباره مفهومًا كونيًا. وهم المُثقف يتمثل في الدفاع عن القيم الإنسانية والوقوف إلى جانب الحق والقضايا النبيلة والعادلة والالتزام بالدفاع عن المظلومين والمستضعفين. ويشمل المفهوم العديد من المِهن الثقافية، مثل الكُتاب والأدباء والصحافيين والأساتذة الجامعيين والمحاميين،... أي ما يُسمى بنخبة المجتمع التي تقوم بفضح تجاوزات وشطط النخبة السياسية الحاكمة وبعض المجموعات التي تستغل المقدسات لنشر الجهل والدروشة. ودور المثقف دور نقدي، يتمثل في «التدخل فيما لا يعنيه» لتوجيه أصابع الاتهام لأولئك الذين ضربوا عرض الحائط بالعقد الاجتماعي واستغلوا سلطتهم السياسية والإدارية والرمزية لارتكاب المفاسد وتسلطوا على الناس وطغوا. ويمكن للمثقف أن يتصرف فرديًا أو أن يُشكل مع مثقفين آخرين جمعية أو اتحادا للتعبئة الجماعية بغية التعبير «بصوت واحد» عن قضايا مختلفة. ولعل هذه المواقف هي التي تطرح مسألة استقلالية المُثقف، عن من وعن ماذا يمكن للمثقف أن يعبر باستقلالية؟ الواضح أنّ الاستقلالية تبرز ومن الوهلة الأولى عن السلطة السياسية التي تسعى إلى احتواء المُثقف لكي لا يقوم بدوره التاريخي في الاهتمام بقضايا المجتمع، وإغرائه بالمزايا المادية والمعنوية ليصبح جزءا لا يتجزأ من منظومتها السياسية. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم المثقفين إلى مثقف مستقل وإلى مثقف السلطة، فالأوّل دوره نقدي يُدافع عن حقوق الإنسان والحريات والمواطنة، وغيرها من القضايا السياسية والاجتماعية، والثاني دوره تبريري لكلّ ما تقوم به السلطة السياسية. وسيجد مثقف السلطة كلّ التسهيلات التي تُمنح له في إطار الدعاية للحُكم القائم، وقد يُسّخر هذا النوع من المثقفين للرد على حُجج المثقف النقدي الّذي هو في الأصل ينتقد وربّما قد يُعارض سياسيًا. ولا يتوقف دور المثقف النقدي عند حدود النقد السياسي، بل ينتقل إلى النقد الاجتماعي ليكشف عن عيوب المجتمع، بغية الارتقاء به إلى المستويات الحضارية العُليا. وسيدفع هذا النوع من النشاط المُتعدّد: الثقافي والفكري والسياسي إلى تشكل أقطاب ثقافية داخل جماعة المثقفين، تكون بين محبي التجديد والتحديث وبين المحافظين أو محبي التقليد، وأيضا بين أجيال المثقفين وكذلك التنافس حول الوجاهة والتأثير، بمعنى هناك صراع مع الخارج المُتمثل في السياسيين وفي التيارات المُنغلقة دينيًا، وصراع بين المثقفين داخل الحقل الثقافي عمومًا والحقل الإعلامي، التقليدي منه والحديث. فالإعلام قد أصبح وسيلة مثالية للبروز وامتلاك الرمزية الثقافية وحظوة المُتابعة من قِبل القراء والمتابعين والمهتمين. فعالم المثقفين عالمٌ مُعقد، لكن لا يمكن للمُثقف أن يستقيل، فالمثقف يُصارع على عِدة جبهات، ومنها بروز نوع من «المثقفين» الذين يمتلكون مساحة كبيرة في القنوات الإعلامية، التلفزية على وجه الخصوص، ويتكلمون في كلّ شيء ودون أدنى معرفة بالموضوعات المُعالجة، والأخطر منها يتمثل في صفحات الفيسبوك والشبكات الاجتماعية المفتوحة لكلّ الناس دون حسيب أو رقيب، وتلعب هذه «الأقلام» دورا سلبيًا يُغطي على دور المُثقف الجاد، وتُهاجمه في كثير من الأحيان لكونه يُخلخل المفاهيم والتصورات المُكرسة لديها... لكن الأهم في كلّ ذلك الاستقلالية المادية التي تمكنه من إيجاد مساحة فاصلة بينه وبين السلطة الحاكمة، وبالتالي الابتعاد عن الضغوطات المادية التي قد تمارسها عليه هذه الأخيرة، ويتعلق الأمر بالموظفين لدى مؤسسات الدولة. والمُوقف النقدي ليس بالضرورة موقفًا سلبيًا، فهو يبحث عن التغيير ويُرافق التحولات الايجابية على جميع المستويات التي يعرفها المجتمع من أجل بلورة تصورات تساعد على تجاوز الأزمات المُختلفة، وعلى المُثقف النقدي أن يُحافظ على استقلاليته حتى لا يكون لعبة في يد السلطة السياسية، أو سلطة المال وبخاصة الفاسد منه، وكذلك السلطة الإعلامية، وعليه أن يُقاوم الإغراءات المُختلفة حتى يُحافظ على استقلاليته الفكرية والنقدية. وعليه أيضا أن يصمت أحيانا لكي لا يقول أي كلام، وكما يقولون: «إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب».