مات أحمد بن بلة توفي أمس السيد أحمد بن بلة، أول رئيس للجزائر المستقلة، بمقر سكناه بالجزائر العاصمة عن 96 سنة.خبر الوفاة أعلنته عائلة الفقيد التي اضطرت في الأسابيع الأخيرة إلى تكذيب شائعات عن رحيل "الرئيس" والتي تم تداولها على نطاق واسع، إثر تدهور حالته الصحية ودخوله مرتين شهر فيفري الماضي مستشفى عين النعجة العسكري. وبرحيل بن بلة تطوى صفحات كتاب تاريخ الجزائر الحديث الذي تقلب فيه بين مختلف الأدوار، وتحول من رمز تتغنى باسمه الجماهير العربية إلى رئيس ثم إلى سجين بأمر نائبه ورفيقه الكولونيل هواري بومدين الذي أنهى عامين من عمر حكمه القصير سنة 1965 في انقلاب عسكري أريد له أن يحمل تسمية التصحيح الثوري، وتشاء الأقدار أن يرحل بومدين قبل بن بلة الذي أطلق الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد سراحه، ليحظى بالتكريم والتبجيل في عهد عبد العزيز بوتفليقة الذي كفّر عن ذنب الدولة الجزائرية في حق رئيسها الأول وأحد رموزها التاريخيين. و رغم محاولات نظام بومدين فرض قانون الصمت على تاريخ الرجل، إلا أن أحمد بن بلة ظل رمزا من رموز التحرر في العالم الثالث بالرغم مما قيل أو كتب عنه، ورغم الشعبية الكاسحة التي اكتسبها خليفته وغريمه فيما بعد. اختفاء بن بلة والجزائر تتأمل نفسها وهي في سن الخمسين من استقلال صعب وبناء شاق و متعثر للدولة الوطنية، سيترك بلا شك حسرة لأن الرجل حمل الكثير من الأسرار معه كما فعل الكثير من رفاقه الذين رحلوا دون أن يقدموا "روايتهم" لوقائع الثورة وما تلاها والتي لا تزال إلى اليوم مجهولة التفاصيل و عرضة لمختلف التأويلات. خصوصا وأن الإيديولوجيا الكولونيالية عادت بقوة هذه الأيام، مع انفتاح شهية القوى الاستعمارية القديمة على الأطباق الدموية، و تحميل قطاع واسع من جيل الاستقلال مسؤولية إخفاقات تسيير الدولة لجيل الثورة. وعدا الاعترافات القليلة فإن أحمد بن بلة أخفى تاريخا كاملا باختفائه هو الذي بدأ النضال منذ سنة 1937 تاريخ انتسابه إلى حزب الشعب وتاريخ الميلاد السياسي لهذا الطفل الذي ولد بمغنية في الخامس والعشرين ديسمبر 1916 لأبوين فقيرين، و بتلمسان أتم دراسته الثانوية ثم أدى الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي. وانتسب أحمد بن بلة إلى المنظمة الخاصة التي حضرت لثورة التحرير ونسبت له عملية السطو على بريد وهران التي كانت أهم عملية قامت به المنظمة حتى وإن نازعه البطولة في هذه العملية رفيقه حسين آيت احمد، لكن بن بلة قال قبل سنة في حديث لمجلة "جون آفريك" أنه هو من نظم العملية من ألفها إلى يائها. وتم توقيفه وحكم عليه بالسجن ثماني سنوات، لكنه نجح سنة 1950 في الفرار من سجن البليدة والالتحاق برفاقه في القاهرة، حيث نسج علاقات صداقة مع جمال عبد الناصر، صداقة أصبحت بعد الاستقلال تهمة يسوقها خصومه الذين اتهموه بالولاء لعبد الناصر ورئيس مخابراته فتحي الذيب، لكن التهمة لن تسقط دعم عبد الناصر للثورة الجزائرية. ومن الفصول المثيرة في تاريخ بن بلة كونه عاش أول عملية قرصنة جوية في التاريخ حين أقدمت القوات الجوية الفرنسية على اختطاف الطائرة التي كانت تقله رفقة رفاقه الأربعة من المغرب إلى تونس، وهي الواقعة التي لازال الغموض يلفها إلى اليوم، ليتم سجنه إلى غاية الاستقلال، حيث تحالف مع قائد أركان جيش التحرير هواري بومدين قبل أن ينتخب كأول رئيس للجزائر المستقلة سنة 1963، رئاسة لم تدم سوى سنتين لأن بومدين سيطيح به في 19 جوان 1965، ويضعه تحت الإقامة الجبرية التي ظل بها إلى غاية 1980 حين أفرج عنه الشاذلي بن جديد، ليغادر البلاد بعد ذلك ويؤسس الحركة من أجل الديموقراطية في الجزائر. ومع إعلان التعددية السياسية والانفتاح الديموقراطي عاد بن بلة للجزائر سنة 1990 لكنه سرعان ما انسحب من الحياة السياسية، ليتفرغ لنشاطات ذات طابع قومي عربي أو قاري، وبوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم حذف تاريخ 19 جوان من رزنامة الأعياد الوطنية وقال بصريح العبارة أن ما حدث في هذا التاريخ كان انقلابا وان تسمية التصحيح الثوري كانت إبداعا جزائريا في المصطلحات، ليظهر بن بلة كرئيس سابق إلى جانب الرئيس الحالي ورؤساء سابقين ( الشاذلي بن جديد وعلى كافي) في احتفالات أول نوفمبر من كل عام، وبدا واضحا أن "الزعيم" الذي قضى 24 سنة من حياته في السجن(بين السجن الفرنسي والسجن الجزائري) قد تجاوز جرحه العميق إذ يحظى بالاعتراف المتأخر، حتى وإن كتم حسرته حسرة الزعيم الذي لم ينعم بالانتساب للسلطة سوى سنتين من عمره المديد هو الذي كان يطمح للعب دور على المسرح العالمي إلى جانب رفاقه كاسترو ونهرو وماو في مواجهة الامبريالية بعد تحصيل الاستقلال. لكن التاريخ ظل يلاعب هذا المناضل الأسطوري ويلقنه الخسارة بقدر ما يريه فرص الربح.عاش الحروب جميعها وخرج منها سالما وانطفأ قرب المئة والجزائر تبلغ الخمسين، السن التي لا يليق الخطأ بمن يبلغها.