رواية الانفتاح الديموقراطي على السرد تتجاوز "الندبة" في رواية "ندبة الهلالي" للروائي الجزائري "عبد الرزاق بوكبة" الصادرة عن دار نشر ( ANEP) بالجزائر 2013 جرح الفرد وتتعداه إلى جرح رمزي أصاب الذات الجمعية، وهي تفسّر أعطابها النفسية والروحية، وربما تبرّر ذلك البحث العنيف– الذي يتخذ لبوسا سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وثقافيا - عن الذات في الآخر، أو في المكان كقرية أولاد جحيش أوالصحراء أو في الفن كالرواية أو الفن التشكيلي. نحن لا نقرأ شخصيات "بوكبة" في حدودها الفردية، لأنّها نماذج اجتماعية تعكس في تنوّعها المدى الذي استطاع فيه العنف في أبعاده التاريخية المختلفة في الجزائر أن يصهر الوجود في شعور مشترك بالندبة وآلامها، وستكون وظيفة الكتابة كما أشكال الفن الأخرى التأريخ لجينيالوجيا الجرح، والذي نراه في الرواية يتحوّل إلى جرح يلامس شعاب الوجود وأسئلته الميتافيزيقية العميقة. في هذا السياق، تتحوّل "الجازية" إلى الدال الذي يتضمن رمزية الندبة بما هي جدل عنيف بين الحضور والغياب، بين الحاضر والماضي، بين الصمت والبوح، بين الألم والأمل...قد لا أبالغ إن قلتُ أنّ رواية بوكبة هي رواية "الجازية"، أما السرود المتنوعة والمتشعبة حولها فما هي إلاّ تمزقات ضرورية للذات لتعلن عن أنّ غياب الجازية ليس قضية فرد بل هو قضية ذاكرة جمعية يشترك فيها الجميع. ندبة الشخصيات غياب الجازية الغامض، هو المحرّك الكبير للحكي في هذه الرواية، سأسميها بالشخصية البراشتية (نسبة إلى المسرحي الانجليزي براشت) لأنّ حضورها الحقيقي هو في غيابها، وبسبب هذا الغياب، يتحرّك السرد بدافع من الحنين والإحساس بالفراغ أي برغبة ملء الفراغات التي يحدثها الغياب ذاته. أضف إلى ذلك تعدّد الجازية في الرواية؛ سنكتشف أنّها أكثر من امرأة واحدة، كحالة من حلول شخصيات متعددة تحت تسمية واحدة، فهي حاضرة في صورة "جازيات" أخرى. إنّ مأساة "منصور بن ذياب" في الرواية هي الغياب الغامض للجازية ابنة خالته التي كانت تكبره بثلاث سنوات، والذي تعلّم منها الكثير في قريته أولاد جحيش، حيث كانا يسرحان معا في العطلان، قبل أن تغادر القرية في اتجاه الجزائر العاصمة، لتواصل دراستها، ثم تغيّر وجهتها نحو مدينة قسنطينة، وبعدها تنقطع أخبارها، ويقرّر أعيان القرية طرد والدها من أولاد جحيش لأنّ اختفاء فتاة في ظروف غامضة مجلبة للعار. وهنا أجدني أربط بين هذا الموقف وموقف أعيان القرية في رواية "جلدة الظل" وهي الرواية الأولى لبوكبة، حين رفض ذياب الخضوع لقوانين القرية التي تقضي بألاّ يخرج شبابها من القرية، فسلطوا عليه العقاب الشديد، وربطوه إلى شجرة الخروب العليا. كلّ شيء تحوّل في حياة منصور بن ذياب بعد اختفاء الجازية، فخرج في اتجاه آلجي (أي عاصمة الجزائر)، وهناك يحاول أن يرمّم وجوده، ويواجه الحقيقة وهي أنّ الجازية ليست أكثر من ندبة في روحه، بعد أن تسبّبت في ندبة أخرى على رأسه، حين مثّلا دور عريسين، فلمّا همّا بالدخول إلى الكوخ الخشبي انهار عليه السقف، فأصابه عود حاد على رأسه، ليترك عليه ندبة مستديمة. يعيش الذياب الفراغ و الغياب، وهو دائم التساؤل:((ليتك تجيئين يا جازية)) (الرواية/ص 65)، ((هل ستأتي الجازية هذا العام يا خالتي؟)). تتكرر الأسئلة، لكنها لا تأتي، بل يلتقي بجازو، أي بجازية أخرى، التقى بها أمام البريد المركزي بالعاصمة. وعلى صعيد آخر، نجد أنّ ما يعانيه الذياب يتكرر ولو بتفاصيل مختلفة مع شخصيات أخرى: حسين علامة السجود الذي يسأل عن "جازيته" وهي امرأة مثقفة ومتحررة كان يلاحقها، قبل أن تتسبب في إصابته على رأسه، حين هوت عليه بقضيب حديدي، وسنكتشف أنّ حسين علامة السجود كان من وراء اختطاف جازية ذياب، والزواج منها في الجبل، وحملها منه تحت زيتونة في اليوم الذي شنّ الجيش هجوما على معاقل الإرهابيين. وعلي بلميلود الذي يبحث عن حجلة، وعبد الرحيم لوناس عن لويزة...إذن الجميع يعيش هذا الفقد، وهذا الترقب لوصال الجزء الآخر الذي اختفى لأسباب معينة، وقد تكون لأسباب غامضة. لا تجد هذه الشخصيات إلا البحث عن التعويض، إما بالكتابة أو اللّجوء إلى الصحراء أو الهروب إلى الجبل. ندبة السارد ما يمكن أن نسميه تعددا صوتيا في الرواية، هو أيضا ما يمكن أن يعني التناوب الديموقراطي على السرد. هل يمكن أن نقول - وحال رواية " ندبة الهلالي "هو تعدد رواتها - أنّنا أمام سرد مضاد للصوت اللاهوتي للسارد الواحد؟ ما يجعلنا نرهف السمع إلى ذلك التنوع باعتباره انسجاما للرواية مع روح مرحلة جديدة يشهدها العالم العربي اليوم كمرحلة انفجار أصوات الهامش والهامشيين، وثورتهم ضد الصنميات والدوغمائيات المقيتة التي تجد نموذجها الرمزي الشهير في صورة "الأب/ الحاكم الديكتاتوري"؟ لا نجد في الرواية ذلك النموذج من السارد العالم بكل خفايا الشخصيات،وبأحوالها، والذي يحتويها خطابيا كذلك، بل السارد ذاته، أضحى صوتا خافتا، ومجرد شخصية تغيب في أغلب الأوقات، لتفسح المجال لشخصيات تبحث عن ذاتها من خلال استرجاع صوتها المقموع. يمكن أن نعتبر صوت السارد الواحد/ أو ذي البعد الواحد تمثيلا لكلام الآباء، وهو كلام لاهوتي وثابت واحتوائي، لأنه يقترن بالسلطة الآمرة التي تستحوذ على الأصوات الأخرى، من هنا سيكون التعدد الصوتي في الرواية تفجيرا لهذا الصوت الواحد، ليكون من جهة أخرى انبثاقا لصوت الأبناء. يقرّ "ميخائيل باختين" في كتابه (الخطاب الروائي) أنّ (( الروائي لا يعرف لغة واحدة ووحيدة، يمكن أن تُعتبر عن سذاجة (...) لغة أكيدة أو حاسمة، إنّه يتلقاها مصنّفة ومقسّمة من قبل، إلى لغات متنوعة)). (ص 102)، ومعنى هذا، أنّ لغة الروائي حتى لو تبدو للقارئ أنّها واحدة تنتمي إليه دون غيره، فإنّها في واقع الحال مرتبطة "حواريا" بالتعدّد اللساني الذي يميّز لغات ولهجات الواقع اللساني في المجتمع؛ فالروائي يقوم بعملية التقاط لهذه اللغات واللهجات التي يجدها في مختلف شرائح المجتمع وطبقاتها الاجتماعية والمهنية فيقوم بتحويرها في نصه لتغدو ظاهريا أنها تنتمي إلى لغته. في رواية (ندبة الهلالي) يجد القارئ نفسه أمام عالم مركّب ومتشعّب من اللغات التي تنطق بلسان حال طبقات المجتمع الجزائري؛ لا نجد لغة واحدة، كما لا نجد معجمية واحدة، حتى لو تبدو لنا ظاهريا أنها قيلت من خلال صوت واحد هو صوت الروائي أو صوت الراوي في أحسن الأحوال. من ذياب بن منصور الحكواتي بلغته التراثية، إلى منصوربن الذياب الراوي المثقف الذي هاجر قريته أولاد جحيش ليستقر في مدينة العاصمة، ويمتهن بيع الكتب في باحة البريد المركزي، وحسين علامة السجود بمعجمه الديني السلفي، وعلي بلميلود المتصوّف الذي يردّد خطاب المتصوفة عن الحلول في ذات الله، ومعرفة طرق بلوغ امتلاء الروح، وانبلاج أنوار النفوس في صحراء مترامية الأطراف تعطي دروسا في قيمة الحياة والجسد والكلمة والمرأة والجوع، ومنصف البلاقجي الذي ينقل إلينا عبقرية الإنسان الشعبي من خلال معرفته لنكتة الواقع السمجة والذكية والمتمرّدة وقوتها التصويرية في رسم تناقضات ساخرة للواقع، وعبد الرحيم لوناس الفنان التشيكلي الذي يتكلّم لغة الفن....إلخ إذن يجد القارئ نفسه أمام هذا الزخم من الشخصيات، لكن بلغاتها وخطاباتها التي حاول الروائي أن يجعلها مرايا تعكس التكوين الاجتماعي والايديولوجي لكل شخصية؛ فثمة فرق واضح مثلا بين منصور بن ذياب المثقف الحداثي، وحسين علامة السجود الشاب السلفي الذي اختار طريق الجبل لتأسيس مشروع مملكة الله على الأرض. وبالعودة إلى باختين مرّة ثانية، فإنّنا نجد أنّ أصالة الرواية كفن مميز عن الفنون الأخرى، هي أنّها فن الإنسان الذي يتكلّم، والذي ينقل كلام الآخرين إمّا بحتوائها أو بالحفاظ على خصوصياته؛ فالمتكلم في الرواية هو فرد اجتماعي، محدّد تاريخيا، وكلامه/ خطابه يمثّل لغة اجتماعية، ولذا فإنّ الخطابات في الرواية لابد أن تحدّد مختلف الايديولوجيات والانتماءات الاجتماعية داخل المجتمع، وانطلاقا من خطاب الشخصية يمكن إحداث تصنيف للغة كمدخل للتعدد اللساني، لكن أيضا للتعدد الايويولوجي للواقع. الواقع ليس منسجما، ليس كتلة موحدة، ولا صوتا ثابتا، إنّما هو مركب فسيفسائي، متعارض كذلك في بنياته، ولذا فالرواية تراهن على نقل هذا التعدّد، وإبرازه في عالمها الخطابي، ثم الدلالي، وعلى القارئ فيما بعد أن يشتغل على إبراز التنوع في العملية التأويلية كذلك. راهنت "ندبة الهلالي" إذن على هذا التنوّع، وإن كان واضحا للعيان اشتغالها على الصوت الآخر، أقصد صوت الطبقات المهمشة في المجتمع، كما لو أنّها – أي الرواية – تثور ضد برجوازيتها، وتريد هذه المرة أن تكتب خطابات الهامش، ويكفي انّ النكتة كشكل تعبيري، حظيت بمكانة خاصة في الرواية، كما أنّ أشكال التعبير الأخرى مثل الرسالة في شكلها التقليدي أو الالكتروني، الحكاية التراثية، تفسير الأحلام، المقامة (حدّثني فلان بن فلان.....) كلها اخترقت نسيج الرواية، وانصهرت فيه، وعبر هذه الأشكال، يحاول الروائي أن يشكّل رؤية ما للعالم، باعتباره "لوحة تركيبية"، لا يمكن أن نراها بوضوح ونفهم أبعادها الحقيقية إلاّ بإدراك العلاقات الجمالية بين تلك المركبات. ندبة المدينة الذاكرة في مواجهة تشوهات التاريخ كتابة الرواية ليست إلاّ مواجهة للحقيقة؛ حقيقة الفرد كما حقيقة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، كأنّ الابداع محكوم إلى هذه الجدلية. أن نقول الحقيقة روائياً، يعني أنّها متوارية خلف مظاهر معينة، أو متخفية داخل منظومات صارمة تعرف كيف تتحايل على العقل والمخيلة لأنها تقدّم ما يشبه الحقيقة، أي تغلّفها بالرموز والصور والاستعارات. ((الرواية مرآة الحقيقة، وحين نلتمس وجوهنا فيها نُدرك فداحة التشوّه، إنّنا لا نصلح لأن نكون أبطالاً لرواية حقيقية.)) (الرواية ص 22). إنّه الخوف من مواجهة مرآة الرواية، لأنّها تعكس الحقيقة كما هي، أي فيما يمكن أن يكون الحالة البدئية والأصلية لحقيقة الإنسان والوجود. مواجهة مرآة الرواية هي مواجهة شجاعة، لأنّها تحمل الذات على النظر إلى بشاعتها، وكأنّنا أمام سردية نيتشوية للحقيقة، حيث كلّ شيء وهم، وما تدركه العقول من الحقائق، هو مجرد أغلفة تزيينية تخفي البشاعة والقبح، بما في ذلك مقولات كالبطولة، والخير، والجمال، والحب...إلخ. نشعر ونحن نقرأ رواية "ندبة الهلالي" وكأنّ الروائي عبر محكي شخصياته، أراد أن يُسقط كل الأقنعة التي في الغالب ما يتمّ وضعها في الشخصيات لتنفي واقعها، في حين هنا نجدها تكرّس واقعها لأنّها جزء منه، بل وجودها قد تشكّل من داخل ذلك العنف، وعبر انحرافات المجتمع الجزائري خلال تاريخه الطويل الحديث والمعاصر. هي نماذج استوطنت ساحة البريد المركزي بقلب العاصمة الجزائرية، اشتركت في مهنة بيع الكتب، ومن خلال طبيعة الكتب التي تبيعها يمكن أن نرى عبرها توجه كلّ شخصية، وانتماءها الفكري والسياسي؛ فهناك من يبيع الكتب العلمية والسياسية والتاريخية، وهناك من يبيع كتب الأدب ، وهناك من يبيع المجلات الجنسية، والبعض الآخر يبيع كتب الدين...فبيع الكتاب هو واجهة شفافة لنرى من خلالها توجهات الشخصيات، دونما الحاجة إلى معلومات كثيرة حولها. هناك تنفتح الذاكرة على "ندوبها" وعلى "جراح" الماضي والحاضر، جراح الأجساد الشغوفة إلى الآخر، والنفوس العطشى إلى الأمان والسلم العاطفي والفكري، هنا وفي هذا المكان المفتوح على مدينة متناقضة مازالت هي الأخرى تحمل "ندوب" التاريخ الاستعماري والتسعيني، وهي تحاول أن ترمّم انكسارات الذات، وترى عبر حكايات منصور بن ذياب، ورسومات لوناس، وذكريات حسين علامة السجود تشوهاتها، وعاهاتها التي اكتسبت عبر التجارب التاريخية المختلفة، تظل في شكل "ندبة" تاريخية ما زالت تتقيّح دما رمزيا. إنّ "ندوب" المكان هي ذاتها "ندوب" شخصيات الرواية، هي ذاتها "ندبة" الروائي: ((أنا كاترين وايز، عبد الرزاق بوكبة صديقي، وإن أنس فلن أنسى رقصته في بيروت، كلّنا كنّا نرقص إلاّه كان يطير، وقع في النهاية، فشجّ حاجبه، وقد راسلني بعدها: "شُفي الجُرج يا كاتي، بقيت ندبتُه، لذلك سأسمّي روايتي الجديدة ندبة الهلالي. ")) (ص 341). كان عليه إذن، أن يرى الواقع كما التاريخ من زاوية الندبة، أي أن يتأمّل الجرح والأثر، الباطن والظاهر، العمق والسطح، البوح والصمت...إلخ إنّها من يفسّر تمزقات المدينة، وتحوّلات الذات الجزائرية. وستساعدنا على تغيير زاوية نظرنا إلى الحقيقة، بتقشير سطوحها الثخنة، لنرى جراحا غائرة جدا، لعلها هي التي مازالت تجعلنا كذوات جزائرية لم نشف بعد من جراح التاريخ. ندبة القارئ حتى للقارئ نصيبه من "الندبة"؛ ويجب أن نعود بالأحداث إلى بدايتها، وتحديدا إلى رواية (عبد الرزاق بوكبة) الأولى (جلدة الظل)، والتي انتهت نهاية مفتوحة، دون أن يدري القارئ إن كان الذياب استطاع أن يصل إلى نبع مرزوق، وينقذ حبيبته "الجازية" من بطش القرية التي شدت وثاقها إلى شجرة الخروب "السفلى"، كما لا يعرف القارئ إلى ما ستؤول إليه هذه العلاقة بين العاشقين. كأنّ نهاية الرواية المفتوحة قد خلّفت ندبة في مخيلة القارئ، فجعلته معلقا في الفراغ، يتساءل: ما الذي حدث بعد ذلك؟ هو ذات السؤال الذي مازال يبحث عن إجابة في رواية "ندبة الهلالي"، من يكون منصور بن ذياب و من تكون ابنة خالته "الجازية"، هل لهما علاقة بذياب والجازية في الرواية الأولى؟ هنا يكمن شغف القراءة، في البحث عن امتدادات ممكنة بين الروايتين. يظلّ القارئ في رواية "ندبة الهلالي" مسكونا بأسئلة كثيرة: سبب اختفاء الجازية، هل ماتت؟ لماذا اختفت حجلة؟ أين اختفت لويزة في مهجرها الفرنسي؟ أين علي بلميلود؟ أين هو الراوي؟ أين هو بكبة؟ أسئلة كثيرة يحملها القارئ طيلة قراءته للرواية مثل الندوب المؤلمة، وقد لا تسعفه نهاية الرواية، ليشفى نهائيا من تلك الأسئلة.