عرفت الجزائر خلال نصف قرن من الاستقلال عديد السياسات الفلاحية التي لم تكلل جميعها بالنجاح لكنها جاءت لتؤكد على أهمية القطاع الفلاحي في الاقتصاد الوطني و التحديات الكبرى التي لازالت تنتظر. بعد استرجاع السيادة الوطنية شرعت الجزائر في مسار طويل من الإصلاحات الفلاحية أخذا بالحسبان السياق السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الذي ما فتئ يتطور. بعد الرحيل الجماعي للمعمرين سنة 1962 قامت الدولة الجزائرية الفتية باسترجاع الأملاك الخاصة بأغنياء البلاد و جعل الفلاحين السابقين الذين كان يطلق عليهم "الخماسة" لكونهم لا يحصلون إلا على خمس (1/5) الغلة يستفيدون منها حيث اصبحوا يسيرونها ذاتيا إذ كان ينظر إلى نظام التسيير الذاتي على انه واجب تاريخي من الإنصاف و العدالة الاجتماعية تجاه الفلاحين السابقين لدى المعمرين و عائلاتهم. إن الخيار الاشتراكي للاقتصاد الفلاحي خلال فترة ما بعد الاستقلال قد تأكد من خلال الثورة الزراعية (1971-1979) عبر تأميم كبريات الأملاك الخاصة و الأراضي غير المستغلة من خلال فرض نظام التسيير الجماعي. كما سمح تأميم الوحدات الصناعية للدولة بالشروع في برنامج واسع للاستثمار في قطاع الصناعات الغذائية القائم على استيراد المواد الأولية مع تشجيع الحصول على المواد الأساسية من خلال تدعيم أسعارها عند الاستهلاك. و قد تميزت تلك الحقبة بإنشاء مؤسسات جديدة للبحث و الإعلام و الارشاد الفلاحي فضلا عن تطوير المنشات و التجهيزات القاعدية في الوسط الريفي الذي اصبح يشكل اليوم إحدى مقومات القطاع. إلا أن الشعار الشهير الذي رافق تلك السياسة المتمثل في "الأرض لمن يخدمها" لم يكن له الأثر الثوري المرتجى ألا وهو تحويل العالم الفلاحي و الريفي وإدماجه في مسار التنمية الاقتصادية. إصلاحات في خضم أزمات إن الاحتكار الذي فرضته الدولة على كل سلسة الصناعات الغذائية قد أعاق عملية تحديث الفلاحة كما أن الحماسة التي رافقت الثورة الزراعية قد تلاشت بالتدريج مع انخفاض الإنتاج الفلاحي و ارتفاع الفاتورة الغذائية سيما مع النمو الديموغرافي السريع. إن التوجه الخارجي للصناعة الغذائية الناجم عن خيار الصناعة الغذائية المعتمدة على الاستيراد الذي تم تبنيه منذ سنة 1963 قد زادت حدته خلال الفترة الممتدة بين (1999/1979) التي عرفت تعاقبا للإصلاحات منها تحويل المستثمرات الفلاحية الاشتراكية إلى مستثمرات فلاحية جماعية و فردية تخضع لقانون الانتفاع الدائم. وقد زادت وثيرة تلك الإصلاحات خلال سنوات 1990 على اثر الأزمة البترولية والمالية التي عرفتها البلاد و تبني إجراءات التصحيح الهيكلي الموجهة لاقتصاد السوق. وأدى ذلك إلى إنشاء الغرف الفلاحية و تفكيك بعض المؤسسات العمومية لتثمين المنتجات الفلاحية و دواوين التموين و نظام تعاونيات الخدمات و انهيار الاستثمارات الفلاحية و تضاعف عمليات البيع غير القانوني للأراضي الفلاحية. كما أن الأزمة الأمنية التي حدثت في تلك المرحلة قد زادت من تفاقم وضعية الفلاحين و من اجل ذلك تم سنة 1992 تنظيم استشارة وطنية جمعت عمال القطاع وخبراء وجامعيين. وقد تم التأكيد في تلك الندوة لأول مرة على ضرورة تركيز دور إدارة الفلاحة على مهمتها الأساسية المتمثلة في التنظيم و الضبط و مراقبة و دعم المنتجين. إلا أن تلك التوصيات لم تجد طريقها للتطبيق بسبب الصعوبات المرتبطة بالأزمة المالية التي كانت تمر بها الجزائر خلال سنوات ال1990. وسمح التحسن التدريجي للوضعية الأمنية في البلاد ابتداء من سنة 1999 وتعافي المالية العمومية و انتهاء برنامج التعديل الهيكلي لحكومة تلك الفترة بالشروع في مخطط وطني للتنمية الفلاحية و الريفية (2000-2008). وقد استفاد هذا المخطط من أغلفة مالية كبيرة تم توجيهها لدعم الاستثمار الخاص في المستثمرات الفلاحية و المناطق الداخلية (الجنوب و الهضاب العليا و الجبال) كما تم تدعيمه بعد ذلك (2004) باستراتيجية التنمية الريفية المستديمة. أما الهدف من وراء تلك الاستراتيجية فيتمثل في إعادة بعث المناطق الريفية من خلال نشاطات اقتصادية و تثمين الموارد الطبيعية و إقامة علاقات جديدة بين القطاعين العام و الخاص. طريقة جديدة في التسيير عرفت تلك المرحلة أولى تجارب اللا مركزية الإدارية التي تجسدت في المشاريع الجوارية للتنمية الريفية المدمجة تقوم على مسعى تصاعدي تشاركي و مدمج. وتم تكريس تلك المقاربة بالسياسة الحالية المتمثلة في التجديد الفلاحي و الريفي الذي تم إرساء قواعده من خلال خطاب رئيس الجمهورية في فيفري 2009 ببسكرة خلال انعقاد الجلسات الخاصة بالقطاع. ومن خلال التأكيد على الهدف المحوري للسياسات الفلاحية السابقة المتمثلة في التعزيز المستديم للأمن الغذائي فان التجديد الفلاحي و الريفي يرمي إلى حكامة جديدة للقطاع الفلاحي و الريفي تقوم على إعادة تركيز دور الدولة على مهامها الرئيسية و مشاركة مسؤولة و فعالة و تفاعلية لجميع المتدخلين في القطاع. وبالتركيز على الأسس الثلاثة المتمثلة في التجديد الفلاحي و الريفي وبرنامج تعزيز الإمكانيات البشرية و المساعدة التقنية فان تلك السياسة قد استفادت من إطار تحفيزي مدعم بميزانية تبلغ 1000 مليار دج تمتد على خمس سنوات (2009-2014). حل المسالة الشائكة المتعلقة بالعقار وقد تم تخصيص هذا الغلاف المالي إلى تحديث الإدارة و دعم الإنتاج الوطني ودعم أسعار المنتجات واسعة الاستهلاك مثل الخبز و الحليب... أما تسوية المسالة الشائكة المتعلقة بالعقار فتعد مع تلك الخاصة بالتمويل الفلاحي إحدى الإنجازات الهامة لتلك السياسة وقد كرس قانون التوجيه الفلاحي الصادر سنة 2008 نظام الامتياز كطريقة مثلى لاستغلال الأراضي الخاصة بالدولة عوض قانون الانتفاع الدائم الذي صدر سنة 1987. كما عرفت سنة 2011 اتخاذ إجراءات أخرى تحفز على إنشاء مستثمرات فلاحية جديدة و لتربية المواشي على أراضي تابعة للخواص على غرار استحداث قروض مخفضة الفوائد. وقد تم إرفاق هذه الآلية القانونية التي من شانها تحسين الرؤية الضرورية لكل مشروع استثماري بتفعيل الديوان الوطني للأراضي الفلاحية الذي كان مجمدا منذ سنة 1996. الفروع الاستراتيجية إن التصور الخاص بالفروع الذي أكد عليه التجديد الفلاحي و الريفي قد جاء ليجدد تركيز عديد أعمال الدعم الموجه للاستثمارات بغية تكثيف و عصرنة الإنتاج في المستثمرات الفلاحية من اجل التوصل إلى تحقيق نمو داخلي قوي. في هذا الصدد، تم تصنيف عشرين فرعا في خانة الاستراتيجي (الحبوب و البقول الجافة و الحليب و اللحوم الحمراء و البيضاء و البطاطا...) بالنظر إلى دورها في دعم الأمن الغذائي و الإمكانات التي تتوفر عليها من حيث خلق القيمة المضافة. ومن اجل ضمان استمرارية تلك الفروع اتخذ التجديد الفلاحي إجراءين خاصين يتعلق الأول بنظام الضبط الرامي إلى تامين الفلاحين و الثاني يخص تحديث وتكييف التمويل و التأمينات الفلاحية. وتخضع تلك الفروع إلى متابعة من خلال الإحصائيات الفلاحية في إطار عقود النجاعة المبرمة مع الولايات ال48 و تتوفر على مجالس مهنية يتمحور دورها الأساسي في تنشيط تطوير الفرع. وقد ساهمت تلك المقاربة في زيادة حجم الإنتاج الفلاحي بنسبة 14% في المتوسط خلال السنوات الثلاث الأخيرة. و إجمالا فان الشكل التنظيمي الجديد الذي يجري إرساؤه يتطلب تعزيز إمكانيات مختلف المكونات البشرية و التنظيمية للقطاع الفلاحي و الريفي.. إلا أن السياق الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و كذا التغيرات المناخية يمكن أن تعرف تطورا و تشكل تهديدا ينبغي أخذه بالحسبان و الذي يتحتم على القطاع الفلاحي أن يستعد له بشكل جيد.