اهتدى مخططو الجيش الفرنسي إثر فشل جل المحاولات العسكرية المتعددة المدعمة بالعمليات السيكولوجية للقضاء أو إبطال مفعول المقاومة بالولاية الثالثة التاريخية إلى خطة حربية جديدة تمثلت في تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق أطلق عليها تسمية عملية " جوميل" أو "المنظار" استهدفت عزل مجاهدي جيش التحرير عن القاعدة الشعبية. وقد أطلق على هذه العملية هذه التسمية نسبة إلى المنظار الذي كان يستعمله الجيش الفرنسي لرصد حركات المجاهدين و السكان و تم إطلاقه بعد مضي سنة على اعتراف هيئة الأممالمتحدة بالقضية الجزائرية و إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وكانت هذه الخطة تهدف أساسا إلى شن حملات تمشيط واسعة عبر القرى و نقل سكانها إلى المحتشدات المحاطة بالأسلاك الشائكة و الخاضعة لمراقبة مشددة من طرف الثكنات العسكرية المعززة و المدعمة بغرف صغيرة للتعذيب تمت تهيئتها تحت الطوابق الأرضية للمراكز المتقدمة للعدو بغرض إلحاق أشد أنواع العذاب بكل شخص مشتبه فيه في التعاون مع المجاهدين. و قد خطط لهذه العملية الجهنمية الجنرال " ديغول" الرجل المخطط ل "سلم الأبطال" و مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة و الذي عين الجنرالين " موريس شال" و " بيجار" لتنفيذ تلك العملية " القذرة" ضد السكان العزل. و ل"تصفية" القرى استعمل العدو ثلاثة أسلحة تم فيها الاعتماد على " النمور" (رجال المظلات) الذين أدوا فيها دورا أساسيا. وبعد مرور 58 سنة عن اندلاع ثورة نوفمبر 1954 يتذكر المجاهدون آيت أحمد سي والي و أزواو عمار و عصماني بلقاسم المدعو " سي عمر" و هم على التوالي أمين مركز القيادة للولاية الثالثة التاريخية و قائد المنطقة الصحية بنفس الولاية زمن " النمور" حيث شرع في جويلية 1959 أصحاب القبعات الخضراء في الهبوط من المروحيات في سماء المرتفعات الغابية للأكفادو. انتشار عناصر "البارا" كنبات الفطر وأضاف المتحدثان أنه " في تلك الصائفة شاهدنا (البارا) ينتشرون في الأرض كنبات الفطر في الوقت الذي كانت فيه كتائب جيش التحرير الوطني تتضاءل إلى الحد الذي بادرت فيه النساء بتعويض الرجال." ولدى كل عملية قصف للقرى بقذائف المدفعية المصحوب بالغارات الجوية يظهر أفراد كومندوس المعروفين ب "جنود بالبوا" الذين يتميزون بوحشية كبيرة حيث كانوا يقومون بالإجهاز بواسطة رشاشاتهم على كل ما تبقى حيا بعد موجات القصف. وهكذا قام العدو بزرع الرعب في أوساط السكان لعزلهم عن المجاهدين و تجويع هؤلاء لإجبارهم على "الخروج من مخابئهم"، حسب المجاهد سي والي الذي ذكر في هذا السياق بالاستعمال المكثف للقنابل الحارقة (نابالم) ضد مواقع جيش التحرير الوطني. و لا يزال عدد من المجاهدين الأحياء يحملون آثار الحروق الناتجة عن استعمال هذا السلاح الحربي المحظور بموجب اتفاقية جنيف. الجنون المدمر لم يرحم النساء و لا حتى الأطفال ... تجدر الإشارة أن الجنون المدمر لعساكر الاستعمار لم يستثن النساء و لا الأطفال و لا حتى الشيوخ و المرضى و المواشي التي تم القضاء عليها في حين تم حرق الغابات بواسطة قنابل حارقة تم إطلاقها من الطائرات. ولم يكف ذلك ليشفي غليل الجيش الفرنسي الذي كان يستعين بأعوانه من السكان المحليين لإخضاع كل مشتبه فيه لأشد أنواع الاستنطاق من خلال استعمال أقسى طرق التعذيب من بينها طريقة يعتمد فيها على تمرير التيار الكهربائي عبر أجزاء الجسم الحساسة و المبللة بالماء. و كان غضب العدو يتضاعف إثر كل هزيمة مني بها في مواجهة جيش التحرير الوطني حيث كان ينتقم بطريقته الخاصة من السكان العزل سيما النساء. و يتذكر المجاهدان في هذا السياق حادثة ظلت راسخة في الأذهان. ففي أحد أيام صيف 1959 بقرية " ايغيل ايمولا" و هو المكان الذي تم فيه نسخ بيان أول نوفمبر 1954 حيث تم شق بطن امرأة حامل بحربة على مرأى ذويها حيث أخرج أحد جنود " البارا" الجنين حيا وعرضه على السكان المجتمعين بساحة القرية. وقد شهدت كل قرية مثل هذه الأحداث البشعة من صنع " البارا" و مرتزقة جيش الاحتلال المكلفين بكسر شوكة السكان المحليين مع أنه لم يكن بوسعهم إدخالهم عالم التحضر و التمدن حسب زعمهم يضيف المجاهد سي والي. ويتذكر هذا المجاهد مرور دبابة على سبع نساء من منطقة آث جناد بعد وضعهن داخل حفرة في الوقت الذي تم فيه أيضا حرق سبع نساء أخريات بقرية " مقلع" و هن أحياء داخل كوخ من تبن. كما سجلت عدة حالات لانتهاك الأعراض وكان كريم بلقاسم يقول لكل وافد جديد إلى صفوف جيش التحرير الوطني " من الأفضل لكم البقاء في بيوتكم إذا كنتم غير مستعدين لتحمل بشاعة الاستعمار ضد عائلاتكم و ذويكم" حسب هذين المجاهدين. كما تفيد الشهادات بقيام عناصر "البارا" بايفليسن بقتل ما لا يقل عن 57 مدنيا ذبحا لمجرد اشتباههم بالتعاون مع جيش التحرير الوطني. و تمت الاستعانة بالفيلق الأجنبي لارتكاب هذه الجرائم حيث يتذكر سكان قرية " تخليجت " ببلدية صوامع ذبح خمسة من ذويهم من طرف جنود من إفريقيا السوداء. يشار من جهة أخرى، أن أمراض العصور الوسطى و الجوع كانت تفتك بالقرويين الذين تم تهجيرهم إلى المحتشدات و المجمعات حيث قدر عددهم بالآلاف موزعين عبر إقليم الولاية الثالثة التاريخية الممتدة من متيجة إلى سطيف و من تيزي وزو إلى غاية المسيلة. و قد أسفرت عملية " جوميل" بهذه الولاية باستشهاد ما يزيد عن 15.000 مدني. كما تعيد نفس العملية للأذهان إنشاء عدة مناطق محرمة حيث كان كل تنقل و لأي سبب مرهونا بحمل رخصة مؤقتة تسلمها الإدارة الفرنسية و هي الرخصة التي استغلتها المسبلات (النساء الفدائيات) لتموين المقاومة حسب المجاهد أزواو عمار أحد أمناء مركز قيادة الولاية الثالثة التاريخية. استشهاد نحو ثلثي قوات جيش التحرير الوطني وحسب هذا المجاهد فإنه سجل على إثر تنفيذ عملية " جوميل" استشهاد ما يناهز ثلثي قوات جيش التحرير الوطني بهذه الولاية التاريخية أي ما يعادل 7500 مجاهد من مجموع 12.000 حيث كادت قيادة الثورة تفقد بهذه المنطقة معظم قادتها خلال ثلاث سنوات من الجمر ميزها تطويق القرى بالأسلاك الشائكة و تمشيط الأدغال بحثا عن " الفلاقة". ويضيف المتحدث أنه سجل سقوط ما لا يقل عن 12 ضابطا في صفوف جيش التحرير الوطني في ميدان الشرف خلال هذه العملية الجهنمية من ضمنه معبد الرحمان ميرا و علي بنور و موح سعيد أوزفون و سي عمران أزواو و غيرهم من إطارات الثورة. وأشار أن هذه العملية سبقها سنة 1958 جمع معلومات من طرف مصالح المكتب الثاني حول جيش التحرير الوطني. وفي سنة 1959 يتذكر المجاهد أزواو قام الجيش الاستعماري بعملية تمشيط واسعة عبر المنطقة بغرض ضرب المقاومة. و في سنة 1960 تم تطويق القرى و إحاطتها بالأسلاك الشائكة بالاعتماد على قوات الدفاع الذاتي تم انتقاؤهم من بين القرويين تحت التهديد بحرمهم من المؤونة. كما تميزت هذه العملية بإطلاق كومندوس في الجبال لمطاردة المجاهدين لغاية الإعلان عن وقف إطلاق النار. جدير بالذكر أن كل هذه الأفعال الشنيعة و المراقبة المشددة المفروضة على المحتشدات لم يجن منها العدو الثمار المرجوة كما تمناه عن قطع الصلة بين السكان و المجاهدين الذين تمكنوا من فك الحصار المضروب من خلال تهيئة مخابيء داخل تلك المحتشدات و في بعض الأحيان بالقرب من المراكز المتقدمة للعدو حيث كان المجاهدون يستفيدون من بعض ما كان يمتلكه السكان في إطار روح التضامن المثالية التي كانت تميز ثورة نوفمبر 1954 حسب ما يتذكر المتحدثون. وتعتبر عملية " جوميل" بالنسبة للمجاهد سي والي أكبر دليل على أن " ديغول" فعل كل ما بوسعه من أجل إبقاء الجزائر في كنف الاحتلال الفرنسي على عكس ما يدعيه أولائك الذين يدعون أن الاستقلال كان هدية تلقيناها من مدبر هذه العملية الجهنمية.