شكل اعتذار رئيس الوزراء المكلف مصطفى أديب, عن تشكيل الحكومة الجديدة, انتكاسة سياسية جديدة تضاف لتلك التي شهدها الجهاز التنفيذي على مدار الأشهر الماضية, على خلفية الأزمات المتعددة الأوجه التي تعيش على وقعها البلاد. فبعدما دعا في أكثر من مناسبة, القوى السياسية في لبنان إلى تسهيل تشكيل "حكومة مهمة" مؤلفة من اختصاصيين, لتجنيب البلاد ما لا يحمد عقباه, وأكد أن أي تأخير إضافي في تشكيل الحكومة, من شأنه أن يفاقم الأزمة ويعمقها, ويدفع اللبنانيين نحو المزيد من الفقر والدولة نحو المزيد من العجز, أعلن مصطفى أديب, يوم السبت اعتذاره عن متابعة المهمة التي كلف بها "بسبب الصعوبات التي تواجه مسار توزيع الحقائب الوزارية". وكان الرئيس اللبناني ميشال عون- وبعد مشاورات نيابية ملزمة - قد كلف في 31 أغسطس الماضي, مصطفى أديب, بتشكيل حكومة تخلف حكومة حسان دياب, التي استقالت في العاشر من الشهر نفسه, إثر ضغوط من الشارع, ستة أيام بعد انفجار مرفأ العاصمة بيروت الكارثي الذي خلف خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات. وواجه مسار تشكيل الحكومة الجديدة , برئاسة أديب, عقبة كبيرة تمثلت في إصرار حركة "أمل" و"حزب الله" على الاحتفاظ بوزارة المالية في الحكومة التي كلف أديب بتشكيلها وترأسها, إلى جانب المشاركة في تسمية ممثليهما في الحكومة من خلال تقديم لائحة أسماء لأديب ليختار منها وزراء الطائفة الشيعية, في الوقت الذي أكد فيه رؤساء حكومات سابقون (فؤاد السنيورة, تمام سلام, نجيب ميقاتي), رفضهم أن تكون حقيبة وزارية بعينها حكرا أو حقا حصريا لفصيل أو فئة سياسية بعينها. وشددوا - في بيان مشترك الثلاثاء الماضي - على أن الدستور اللبناني شديد الوضوح, إذ ليس هناك حقيبة وزارية يمكن أن تكون حكرا أو حقا حصريا على وزراء ممن ينتمون إلى طائفة أو مذهب معين, لا شيء يحول وفقا للدستور دون أن يتولى أي لبناني أي حقيبة وزارية في لبنان, مهما كانت طائفته أو مذهبه . وفي المقابل, تمسك رئيس الوزراء المكلف - قبل اعتذاره عن عدم مواصلة مهمته - بمبدأ "المداورة" في الحقائب السيادية والأساسية والخدمية بين مختلف الطوائف, إلى جانب تشكيل حكومة مصغرة من الاختصاصيين (الخبراء) المستقلين عن القوى والتيارات والأحزاب السياسية. وسبق وأن حذر الرئيس اللبناني ميشال عون من أن بلاده تتجه نحو "جهنم" في حال عدم توافق القوى السياسية على تشكيل الحكومة. وبدوره لفت رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري, إلى أن لبنان لم يعد يمتلك المزيد من الوقت لإضاعته في المناورات السياسية وتصفية الحسابات الشخصية الضيقة والمغامرة بالبلاد لتحقيق مكاسب, مشددا على أن مثل هذه الأمور تهدد ما تبقى من استقرار سياسي واقتصادي ومالي. كما حذر من خطورة الاستمرار في "الأداء والسلوك السياسي غير المسؤول", لافتا إلى أن هذه التصرفات "تمثل أرضا خصبة لإعادة إنتاج الفوضى والإرهاب الذي يتحين الفرصة للانقضاض على الاستقرار في لبنان والعبث بالوحدة والسلم الأهلي". وعلى إثر اعتذار مصطفى أديب, سيتعين إعادة تفعيل عمل حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب, قبل توجه رئاسة البلاد نحو الدعوة لاستشارات نيابية ملزمة, لاختيار رئيس جديد للحكومة, وفقا لما ينص عليه الدستور اللبناني. اقرأ أيضا : غوتيريش يدعو إلى اتخاذ "تدابير ملموسة" لتنفيذ الإصلاحات في لبنان الأزمة السياسية تفاقم الوضع الاقتصادي المتأزم أساسا يؤكد الخبراء, أن اعتذار أديب, عن تشكيل الحكومة, من شأنه أن يضع لبنان - الذي يعاني أساسا من أزمة متعددة الأوجه وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية - "عند مفترق الطرق" ويدفع به نحو المجهول, ويشددون في هذا الصدد, على ضرورة احتكام الطبقة السياسية للعقل وتغليبها لمصلحة لبنان والشعب اللبناني. وفي ظل الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ أشهر, يبقى استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي, بشأن "حزمة الإنقاذ الضرورية" مرهونا بتشكيل الحكومة والبدء في الإصلاحات المتفق عليها. وكانت الحكومة اللبنانية قد بدأت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي منتصف شهر مايو الماضي, للحصول على مساعدات مالية من الصندوق في ظل النقص الحاد في السيولة النقدية والتدهور المالي والاقتصادي والنقدي غير المسبوق في تاريخ البلاد, مستندة إلى خطة للإصلاح المالي والاقتصادي تمتد ل 5 سنوات (تم إقرارها في 29 أبريل الماضي), وتستهدف الحصول على تدفقات مالية من الخارج خلال تلك الفترة بقيمة 28 مليار دولار (10 مليارات من صندوق النقد الدولي و 11 مليار من مؤتمر سيدر و7 مليارات قروض وهبات ثنائية مع الدول والصناديق والمؤسسات المانحة) لتمويل العجز في الميزان التجاري والخدمي. ويعرف لبنان انهيارا اقتصاديا متسارعا يعد الأسوأ في البلاد منذ عقود, لم تستثن تداعياته أي طبقة اجتماعية. وخسر معه عشرات الآلاف وظائفهم أو قسما من رواتبهم خلال الأشهر القليلة الماضية. وبات نصف اللبنانيين يعيشون تقريبا تحت خط الفقر بينما تعاني نسبة عالية من القوى العاملة من البطالة. وتفاقمت الأزمة المالية بفعل تداعيات مرض فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19), وكذا الانفجار الضخم الذي شهده مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي. وتجسدت الأزمة جليا في تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية, والذي تجاوز - مباشرة بعد إعلان أديب عن اعتذاره عن مهمته - 8 آلاف ليرة لبنانية لكل واحد دولار. ومع الشح في السيولة والقيود المصرفية على سحب الودائع, اضطرت الحكومة إلى التوقف عن سداد الدين الخارجي في إطار إعادة هيكلة شاملة للدين. وفي غضون ذلك, حذرت لجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا), اليوم الأحد, من عدم قدرة نصف سكان لبنان على الوصول إلى حاجاتهم الغذائية نهاية العام الحالي, خاصة بعد تدمير جزء كبير من مرفأ بيروت المنفذ الرئيس لدخول البضائع, مشيرة إلى أن نسبة الفقراء من السكان في لبنان تضاعفت لتصل إلى 55 بالمائة عام 2020 ارتفاعا من 28 بالمائة في عام 2019.