كانت خيرة والدة شير تحتفظ بجمال وحسن هادئين، كانت طويلة القامة، ممشوقة، ذات وجه صبوح ومشرق، وأنف ناتئ، وشعر طويل وأملس، لكن في نظراتها كان شيئا دائما من الأسى الدفين، عندما تزوجت من والد شير كان عمرها لا يتجاوز السادسة عشر، ولم تقم عائلتها يوم تزوجت حفلا بهيجا، فالبلد كان في ثورة·· ولم يلبث عام على زواجها حتى صعد زوجها إلى الجبل بعد محاولة فدائية فاشلة، كان من المفروض أن ينفذها ضد صاحب مزرعة وادي اميار ديكارا، يومها نزل المظليون إلى فومبيطا، وأخرجوا كل من في البيت، وحاول أحدهم أن يغتصبها، لكن رئيسهم نهره عن ذلك، وقضت يومين في الاستنطاق، وذات يوم طرق الباب رجل غريب، هي لا تزال تتذكر سحنته ونظراته الباردة وصوته الخافت المتئد وهو ينعيها زوجها، حبست صرخة في صدرها، وانهارت دموع غزيرة من عينيها، لم تزغرد ولم تنتحب، كان ذلك هو قدرها··· لم ير شير والده·· التقى به فقط في تلك الصور بالأبيض والأسود التي كانت تحتفظ بها والدته خيرة·· وأقسمت خيرة أن تظل وفية لوالد شير وذلك بالرغم من تردد الخطاب عليها·· قررت خيرة أن تشتغل طيابة حمام عندما اقترحت عليها منصورة بنت الحبيب التي كانت تدير حمام زوجها ديدوح بشارع شاركو بحي فومبيطا·· كل نساء فومبيطا كن يذهبن مرة في الأسبوع إلى حمام ديدوح، كان يحتوي على صالة كبيرة مقسمة إلى نصفين، تفصلهما أقواس وأوتاد دائرية الشكل، وعلى الجدران كانت مشدودة إليها مشاجب صغيرة ومتعددة، ذات لون أسود تعلق عليها الحقائب والرزم المكدسة بالكسوة، وبين أسفل الفضائين كانت توضع الأحذية بشكل متراص ضمن مداخل حجرية صغيرة·· وكان يزين أرضية الصالة الكبيرة زليج زاهي الألوان·· وفي الزاوية كان يوجد كونتوار بالرخام تقف وراءه منصورة بنت الحبيب، ذات بنية ضخمة ومتماسكة، تلف رأسها بشاش أبيض، وترتدي بلوزة بيضاء منقوشة ببعض الرسومات ذات الشكل المزخرف، وإلى جانبها كانت تمتد خزانة واسعة وكبيرة، توضع على أدراجها البشاكير والفوطات، وخلف منصورة بنت الحبيب كانت ترتفع بعض الشيء أدراج من زجاج، موضوع فوقها شكائر الغسول الخضراء، وقطع الصابون الصغيرة، وسوائل صابون الشعر في أشكال جلدية وزجاجية، وعلى يسارها كانت ثلاجة تقليدية مملوءة بالماء المعدني والليمونادا في زجاجات صغيرة وكبيرة·· وغير بعيد عن الكونتوار كان ثمة مكان مخصص لخيرة والدة شير، كانت تجلس أمام طاولة خشبية صغيرة على كرسي صغير مزين بالحلفاء·· كانت ترتدي فوطة ذات خطوط لماعة، وترتدي قرقابا باهت اللون وهو عبارة عن حذاء خشبي·· وبالإضافة إلى الصالة التي كانت ترتدى وتنزع فيها الملابس، وهي في نفس الوقت عبارة عن مكان للاستحمام، فلقد كان الحمام يحتوي على حجرتين كبيرتين، وكانتا تسميان بالبيت السخون والبيت البارد·· تتراص فيهما أحواض صغيرة، في كل واحد منها حنفيتان، واحدة للماء الساخن والأخرى للماء البارد·· وفي وسط البيت الساخن كان ثمة مكان مرتفع قليلا، وهو ذو شكل دائري، كان يستخدم للجلوس، ولحك الجسد بعد أن يبلل بالبخار بالكاسة أو الحجرة·· وكان أيضا مخصصا لطيابة الحمام أو الكياسة التي تقوم بحك أجساد الزبونات ودلكها بعد غسلها في المرحلة الأخيرة بالحبيلة المشبعة برغاوي الصابون·· عندما كنت صغيرا كنت أذهب مع أمي إلى حمام منصورة بنت الحبيب الذي كان يخصص للنساء من الساعة الثامنة صباحا إلى غاية الساعة الخامسة بعد الظهر، ليفتح أبوابه من جديد أمام الرجال الذين يشرعون بالتوافد عليه انطلاقا من الساعة السابعة مساء إلى غاية ساعة متأخرة من الليل·· وكان منظر النساء وهن يرتدين الفوطات، ويضعن في شعرهن الغسول يفتتني، كنت أبكي عندما كانت أمي تحك جسدي بالحجرة، لكن سرعان ما كنت أستعيد سروري عندما كانت تتركني أمي أعبث بالماء، وأنا أحمل بيدي اليمنى تلك الطاسة الحمراء أرمي بها الماء على جسدي وعلى إخوتي الذين تجبرهم أمي على الذهاب إلى الحمام·· ومرة قال والدي لأمي، ''خلاص، الولد كبر، سوف آخذه في المرة القادمة رفقتي إلى حمام الرجال··''.. ويومها شعرت بالحزن·· لكنني صمت، ولم أعد اكتشف ذلك الفرح البهيج الذي يجتاحني يوم كنت أذهب بمعية أمي إلى الحمام··· وكانت خيرة: هي من تشرف على تلك الطقوس الجميلة والبهيجة عندما كانت تستقدم العروس بعد ليلة الدخلة إلى الحمام·· كانت تلبس العروس الصامتة والخجلانة، وكانت هي أيضا من تنزع ملابسها وتضع لها الفوطة، وتوزع الشموع الطويلة ذات الألوان الفاقعة، وتشرف على توزيع الحلوى والمشروبات، وتقوم إلى كل هذا بدلكها وتنشيف شعرها·· وذات يوم سألت شير إن كان يذهب رفقة أمه خيرة إلى الحمام، فنظر إلي ضاحكا، وقال: ''لا ·· أنا راجل يا حميد، أنا لا أذهب إلا إلى حمام الرجال···''.