يعتبر نصر حامد أبو زيد من المفكّرين القلائل في العالم العربي الذين يلتفتون إلى جميع الوجوه الممكنة للتجربة الإنسانية دون اختزال أو إقصاء· المنهج المعرفي الذي سلكه كان يحظر عليه أن يضع العقلانية في خانة التصلّب أو التصوّف في خانة اللامعقول· فلقد أخذ بالعقلانية كما تجلّت في قراءته للفكر المعتزلي وبالتصوّف في كتاباته المتنوّعة عن محي الدين بن عربي· ويسير فكر أبو زيد وُفق نظام متكامل يمكن تلخيص معالمه الكُبرى في النقاط التالية: العقلانية لقد انكبّ المفكّر المصري على قراءة التاريخ المعتزلي من خلال القضايا اللاهوتية الكبرى التي أثارتها هذه الفرقة الإسلامية· ولعلّ مواقفه من بنية النص ومن السلطة الكامنة في الحديث باسمه (كما هو الحال مع المؤسّسات الدينية) هي نابعة من قراءته المعمّقة للفكر المعتزلي على وجه الخصوص وللفكر الكلامي على وجه العموم· لم يقرأ أبو زيد العقلانية المعتزلية فقط، ولكن كان يتساءل بحق: كيف يمكن توظيف العقل في قراءة النصوص أو الأحداث أو الوقائع التي تفلت من قبضتنا؟ كان همّه الوحيد هو: كيف نستعمل العقل برويّة وحذر ولا نستسلم للعواطف الجارفة؟ كان همّه، بهذا المعنى، الهمّ الفلسفي نفسه الذي شغل إمانويل كانط في فجر الحداثة حول شرعية الاستعمال الوجيه والسديد للعقل· لا شكّ أنّ الفكر المعتزلي قدّم مفاتيح ثرية في استعمال العقل وبلورة الأسئلة الجادّة والمصيرية حول علاقتنا بالنص والتاريخ والمقدّس· فما دام السؤال لا ينضب وإرادة البحث لا تنقطع، فإنّ العقل لا يعرف التوقّف ولا يعترف بالحدود· لأنّ الحدود التي تقام حوله هي حدود سلطوية لشلّ حركته والإجهاز على قدراته· صحيح أنّ هناك حدودا ''أنطولوجية'' كامنة في العقل نفسه، فلا يعرف خبايا الوجود أو أسرار الكون أو مفاتن الطبيعة· ولكن لا توجد حدود ''إبستمولوجية'' تحظر على العقل البحث والتنقيب والتساؤل· فما دام العقل يشتغل ويحشر أنفه في الظواهر المعطاة لوعيه يعيد ابتكارها وصناعتها، فإنّه لا يعترف بالحدود، حتّى وإن كان التناهي الأنطولوجي من خاصيّته· وجعل أبو زيد استعمال العقل أيضاً في المواطن التي تتقزّز بطبعها من العقل، ويقصد النص المؤسّس للعقلية العربية - الإسلامية أي القرآن، بالبحث عن تاريخيته وجغرافيته وجيولوجيته الرمزية· فهل النص عصيّ عن القراءة العقلانية أم أنّ الحظر هو بالأحرى إرادة في السلطة للحدّ من كلّ إرادة في المعرفة؟ وكان يعتمد أبو زيد على مسألة خلق القرآن لدى المعتزلة، حيث الوحي هو إلهي والتجسّد التاريخي هو إنساني· مثلاً، إذا نزل القرآن في الصين، هل كان يمكنه أن يُكتَب باللغة الصينية؟ نجيب بالإيجاب، لأنّ التجسّد التاريخي للوحي لا بدّ له من حاوي بشري بمعنى لغة بشرية وثقافة تاريخية، بدونها لا يمكنه أن يتجسّد أو أن يتّخذ من الأعراف والنواميس والشرائع ''جسدا'' له· لقد نزل القرآن في الجزيرة العربية وكُتب بلغة وعقلية هذه المنطقة الجغرافية والتاريخية· فالعقل يشتغل على المادّة الحرفية والإنسانية والتاريخية للغة التي كُتِب بها الوحي، وليس على المعاني السرمدية التي تحيل إليها أو تدلّ عليها· التصوّف لم يكن أبو زيد يرى في التصوّف كنقيض للعقل، مصحّحا بذلك الخطأ التاريخي والإبستمولوجي الذي يجعل من التجربة العقلانية كأمر مخالف أو معاكس للتجربة الروحانية· ما كان يهمّه في التصوّف ليس هو التجربة الروحانية في ذاتها (لأنّها من اختصاص كلّ فرد يتعاطى هذه التجربة، وتخصّ نفسيته وأحواله)، ولكن ما يقوله الخطاب الصوفي عن عمق الظواهر الإنسانية والكونية، ويساعدنا على الولوج إلى هذه الظواهر لفهمها والإحاطة بها كما نجد ذلك في كتابات الحكيم الترمذي حول أغوار النفس شبيهة بما نقرؤه في التحليل النفسي· علاقتنا بالخطاب الصوفي هي علاقة راهنة وحداثية نرى من خلاله ما يمكننا فهمه من الوجود· ولا يخلو التصوّف من عقلانية، بل هو مستقبل الحداثة العربية إذا أحسنّا قراءة الخطاب الصوفي ونقله من ''منغلقه'' النفساني واللاهوتي إلى ''منفتحه'' التأويلي والعلماني· وهناك واقعة طريفة ذكرها ابن عربي الذي اشتغل عليه أبو زيد بروح نقدية وفكرية ثرية· يورد ابن عربي الحوار الذي دار بين الجنيد وسريّ السقطي هذا نصّه: قال الجنيد قال السريّ: سمعت غليم الأسود يقول من أقبل على الأشياء وهو يراها هربت عنه، ومن تركها أتته، قلت له: كيف ذلك يا سريّ؟ قال: كان يذكر أنّه كان يكسب ويجتهد فلا يقوم بكفاية معيشته، قال: فقرأت هذه الآية (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم) فتركت الكسب متوكّلاً على الله بالكفاية، فلو ضربت بيدي إلى هذه الأسطوانة صارت ذهباً وضرب بيده على الأسطوانة فإذا هي تلوح ذهباً· ثمّ قال: يا سريّ، هذه الأعيان لا تنقلب، ولكنّك هكذا تراه لحقيقتك بربّك، فانظر في قوله هكذا تراه يعني الحقّ وهكذا تراه يعني المرئي، أي الرؤية عائدة على الرائي'' (كتاب المسائل، ص· ,19 حيدر آباد، 1948)· تُبيّنُ هذه الشذرة العقلانية عند الجنيد كيف أنّ الحقائق، في الخطاب الصوفي، لا تنقلب، لأنّ هناك نواميس موضوعة في الطبيعة وفي الطبائع البشرية· فمن أحسن الإصغاء إليها واستثمارها أفلح وتقدّم، ومن تواكل وتنكّر لها تخلّف· وهذا ما كان يشير إليه أبو زيد، هو أنّ علاقتنا بتراثنا وتاريخنا ومصيرنا هي علاقة سحرية وكهنوتية، لا نستعمل فيها العقل· نظنّ أنّ الأمور ستتحوّل من الفضّة إلى الذهب، ومن الواقع المزري إلى التقدّم الحضاري بعصا سحرية، دون العمل الجادّ وإعمال العقل، دون قراءة التراث وعقلنته، دون تتبّع النواميس الموضوعة والسير وفقها· فإذا كان الخطاب الصوفي يحثّنا مع الخطاب العقلاني على الأخذ بالقوانين الكونية الموضوعة والسير وفقها ولا ننتظر المعجزات التي لا تأتي أبداً، فلماذا نتمادى في الإيمان بالخوارق وأنّ الخلاص سيأتي من إله مفارق أو من شخص ملهم؟ إنّه الرهان الذي عوّل عليه أبو زيد في إيقاظ التاريخ الفكري، العربي والإسلامي، من سباته أو إفاقته من أوهامه، لأنّ الأعيان لا تنقلب، والحقائق لا تنعكس· إرادة المعرفة في مواجهة إرادة السلطة لقد كان النضال الفكري لأبي زيد هو المعرفة فيما وراء السلطة· لأنّ المشكل في العقلية العربية الإسلامية هو طغيان السلطوي على حساب المعرفي· بمعنى هناك هرميات تتكوّن منها بنيتنا العقلية وتسير وفقها سلوكاتنا دون تدبّر أو نقد، ومن جملة هذه النوازع السلطوية: المؤمن أسمى من الملحد، المسلم أطهر من الكافر، الشيخ أولى من الشاب، الكبير أعقل من الصغير، الرجل أعلى من المرأة، الحاكم أجدر من المحكوم، إلخ· لا تزال مجتمعاتنا رهينة هذا التقسيم المانوي والهشّ الذي أصبح عائقا بالمقارنة مع تطوّر الحقوق البشرية والديمقراطية للمجتمعات الحديثة، وتبدو مجتمعاتنا كأنّها تحيا خارج التاريخ بما تحمله على عاتقها من قيم عريقة هي عائق سياسي وثقافي وفكري إذا لم يتمّ تحديثها أو تجاوزها· لأنّ الرهان ليس أن تحيا مجتمعاتنا تحت سلطة النماذج العتيقة ولكن أن تتطوّر النماذج العريقة لتتماشى مع حركة التاريخ وسيرورة المجتمع· هذا ما ناضل من أجله أبو زيد، هو فضح البداهات السلطوية التي تتوارى وراء دعاوى الحفاظ على الملّة أو الدفاع عن الأمّة· لأنّ في الواقع من يوكل نفسه كمنافح عن القيم فلا يبني معرفة ولا يبلور فكرة، لأنّ دعواه هي سلطة محضة، وربّما أيضاً تسلّط نزوي شبيه بما نجده في العالم الحيواني· لأنّ العالم الحيواني يتقاسم معنا نزوة السلطة أو التسلّط في الدفاع عن إقليمه وإبراز قوّته وشوكته· فإذا كان حالنا يشبه العالم الحيواني في تعاطي السلطة مثلما يتعاطى المدمن على المخدّرات، فلا يمكن بناء ثقافة وتشكيل حضارة ولا نرتقي إلى العالم الإنساني القائم على قيم الحوار والتواصل والخيار الحرّ والعمل المسؤول والسلوك الديمقراطي· لقد حاول أبو زيد تشخيص أمراض التسلّط في العقلية العربية والإسلامية والذي يتجسّد في مؤسّسات سياسية أو دينية أو ثقافية أو إدارية، حيث هذا التسلّط هو نتيجة تاريخية للإيمان في خوارق العادات وأسطوريات الخلاص· فمادام العقل لا يبحث ولا يشتغل، فإنّ الاعتقاد السلبي ينوب عنه وبالتالي لا يصبح هذا الاعتقاد معرفة حصيفة ولكن سلطة عاتية، لأنّه يكتفي بالتواكل وانتظار المعجزات لتغطية العجز التاريخي والحضاري· فلا يتحرّك ولا يحرّك ساكنا فيجمد ويتصلّب ويتسلّط ويمنع كلّ حركة أو تساؤل أو خبرة· لقد رحل المفكّر نصر حامد أبو زيد في عزّ عطائه الفكري والنظري· لكن ما تركه هو في غاية الثراء والإحكام والتكامل· ويكفيه أنّه كان من بين المفكّرين (مع محمد أركون ومحمد عابد الجابري) الذين نادوا منذ ثلاثة عقود إلى ضرورة العقل في مساءلة الفكر والحدث ودرء السلطة والتسلّط· يشبه واقعنا اليوم ما عاينه الغرب في فجر الحداثة والأنوار، بمعنى استفحال الشكّ والتشاؤم وتعميم التسلّط· لهذا يُعتبَر نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون نُسَخ عربية عن ديكارت وسبينوزا وإمانويل كانط· لأنّ هؤلاء الفلاسفة عاينوا استفحال الخرافة والتسلّط السياسي (تواطؤ الكنيسة والنظام الملكي) وراحوا بشكّ منهجي ونقدي صارم في مساءلة العقل والقيم التاريخية والدينية والفلسفية التي بُني عليها التفكير الغربي· واقعنا العربي يشبه إلى درجة مذهلة المرحلة السابقة لميلاد الحداثة الغربية، حيث اشتداد الظلام يعقبه انبلاج الفجر، واستفحال الأعراض المَرَضية في مجتمعاتنا (التسلّط، الخرافة، تواطؤ السياسي والديني) سيعقبه ربّما مرحلة التعقّل والوعي بالرهانات الخطيرة التي نواجهها، والتي تجعلنا أمام خيارين: إمّا الإيمان في القوانين الكونية والحضارية والعمل وُفقها للتقدّم والتحديث والعدل، وإمّا التشبّث بالنصوص والقيم العريقة والانقراض بشكل تدريجي أو عنيف ؛ إمّا العيش تبعاً لنظام إنساني عادل، عقلاني، ديمقراطي، حرّ، حواري، علماني، وإمّا العيش حسب نظام حيواني حيث المعيار الوحيد هو غريزة التسلّط والاعتداء والقوّة·