في بداية الأسبوع الماضي، انتقل إلى رحمة الله المجاهد الجزائري فرانسيس جانسون. قد يبدو هذا الاسم غير مألوف بالنسبة للكثير من الذين لا يعرفون الرجل. فرانسيس جانسون لم يلد فوق هذه الأرض ولا هو أصلا من الجزائر لكنه قدم لها الكثير من جهده وفكره ووفائه وإخلاصه للثورة الجزائرية. فرانسيس هو فرنسي المولد والجنسية، زار الجزائر لأول مرة سنة 1943 عندما التحق بالقوات الفرنسية المرابطة بالجزائر؛ وفي سنة 1948، زار الجزائر ثانية حيث عاش فيها ستة أشهر اطلع خلالها على الوضعية المأساوية التي أصبح عليها الشعب الجزائري بعد أكثر من قرن من الوجود الفرنسي على أرضه، وفي مدينة سطيف استقبله الحاكم الفرنسي وزار معه وسط المدينة ليريه المكان الذي انطلقت منه أحداث 8 ماي 1945، وروى له كيف قام الجيش الفرنسي بواجبه ضد "المتمردين" على السلطة الفرنسية. يقول جونسون، الذي أصبح في هذه الفترة من المقربين من الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر وكذلك من صاحب جائزة نوبل للآداب فيما بعد ألبير كامو، أن هذه الزيارة مكنته من قياس مدى الاحتقار الذي كان يمارسه المعمرون الفرنسيون ضد الجزائريين وكذلك الظروف الغير إنسانية التي فرضها الاستعمار على الشعب الجزائري. ولأن الرجال الحقيقيين يقاسون، كما جاء في كتابه الذي يحمل عنوان "إيمان غبر المؤمن" La Foi d'un incroyant ، بحسب الثمن الذي يدفعونه من أجل وجودهم ومن أجل الدفاع عن الحقيقة، فقد اختار، جانسون، منذ بداية الثورة التحريرية الكبرى، الوقوف إلى جانب الشعب الجزائري ضد بلده فرنسا التي تنكرت لقيم الحرية والمساواة والإخاء التي جاءت بها الثورة الفرنسية. في جوان 1955، يقرر تجاوز مرحلة الكلام والنضال الفكري إلى المساهمة الفعالة في الثورة إلى جانب جبهة التحرير الوطني من أجل استقلال الجزائر، فوضع بيته وسيارته تحت تصرف مناضلي الجبهة كما عمل على إقناع المثقفين الفرنسيين بعدالة القضية الجزائرية مشكلا من بعضهم الشبكة التي أصبحت تعرف باسمه أحيانا وباسم شبكة"حاملي الحقائب" أحيانا أخرى. شبكة جانسون هذه كانت لها فائدة كبيرة جدا للثورة، فكون أفرادها من المثقفين الفرنسيين فأن تحركاتهم لم تكن لتثير شكوك أجهزة الأمن الفرنسية، على خلاف الجزائريين المقيمين بفرنسا الذين كانوا يتعرضون للتفتيش والمراقبة الدائمة، مما مكنهم من نقل الكثير من الأسلحة والأموال والوثائق عبر أوروبا إلى الحدود الجزائرية. في نفس السنة، 1955، أصدر جانسون كتابه الشهير بعنوان "الجزائر خارج القانون" Algérie hors la loi ، كما أصدر جريدته "من اجل الحقيقة" التي يشرح فيها خلفيات مواقفه من القضية الجزائرية. وفي سنة 1960 خصص كتابه المعنون "حربنا Notre guerre ،الذي صادرته السلطات الفرنسية، للرد على الذين يلومونه لوقوفه إلى جانب أعداء فرنسا مبينا بأنه يدافع عن قيم فرنسا التي خانتها هي نفسها، ومبرهنا على صحة مقولته الشهيرة: "إذا آويت جزائريا أنقذت إنسانا من التعذيب". هذا هو المجاهد فرانسيس جانسون الذي كان من الفرنسيين القلائل الذين استشفوا التاريخ فاختاروا مسار المستقبل وساهموا في تحرير فرنسا من استعماريتها ومن بطشها وتطرفها وغطرستها، كما بينوا بمواقفهم أن فرنسا ليست كلها استعمارية، فقد قال جانسون بأنه مع جبهة التحرير الوطني حتى لا يخلط أبناء الجزائر مستقبلا بين فرنسا وبين الممارسات الرديئة لسياسة فرنسية معينة. ولأن الحرية لا حدود ولا جنسية لها، فقد اضطر الفيلسوف جانسون، وهو يساري، أن يقطع صلته برفاقه عندما رفض اليسار الفرنسي باشتراكييه وشيوعييه اتخاذ موقف ضد الحرب في الجزائر، وانبرى، مع ثلة من الفرنسيين الأحرار يحطمون بكتاباتهم جدار الصمت المضروب على الممارسات الإجرامية للجيش الفرنسي في الجزائر. ولأن ما يسميه البعض بحرب الجزائر لم يكن مجرد حرب ضد استعمار أجنبي بل ثورة حقيقية ذات أبعاد إنسانية، فقد أحدثت جرحا عميقا في الضمير الفرنسي، والقلة القليلة جدا من الفرنسيين هم الذين كانت لهم الشجاعة الكافية لكشف الجريمة ضد الإنسانية المرتكبة في الجزائر، ووجدت السلطات الفرنسية نفسها أمام إشكالات داخلية كبيرة وكان منها إشكال شبكة جانسون التي حوكم أفرادها وصدرت في حقهم عدة أحكام بالسجن، وكذلك إشكال الفيلسوف جان بول سارتر الذي رفض اتخاذ موقف المتفرج الصامت وراح يكتب عن عار فرنسا في الجزائر، وهو الذي قال فيه ديغول عندما أرادوا اقتياده إلى السجن: "لا يمكن وضع ديكارت في السجن"، ولأن ديكارت هو المنطق فما صدح سارتر سوى بالحق. المنطق الذي فرضته الثورة الجزائرية على فرنسا هو نفسه الذي جعل الاتحاد الطلابي الفرنسي الموحد ينقسم على نفسه ويستمر الانقسام إلى اليوم بسبب الموقف الإيجابي لبعض الطلبة الفرنسيين الأحرار من الثورة الجزائرية والذي ووجه بموقف مناقض من طرف طلبة آخرين فانتهى الأمر بانقسام التنظيم الطلابي. هكذا كانت الثورة الجزائرية؛ ومضة من التاريخ وأسطورة حققها العظماء وتعاطف معها أحرار من العالم أجمع بما فيها أحرار فرنسا.