هو ذلك الرجل الذي يجلس على فوهة بركان قابل الإنفجار في أي لحظة، يقود دفة مركب وسط مياه بحر واسع ومضطرب الأمواج، هو رئيس مفوضية استفتاء جنوب السودان الأستاذ محمد ابراهيم خليل، وهي المفوضية المسؤولة عل ترتيب وتنظيم عملية استفتاء السودانيين الجنوبيين على حق تقرير مصيرهم مع بداية العام القادم وسيختار السودانيون بين الوحدة مما يعني البقاء مع الشمال في دولة واحدة مساحتها أكبر مساحة في أكبر البلدان في القارة الإفريقية والعالم العربي، أو الإنفصال عن الشمال وتأسيس دولة إفريقية جديدة تضاف إلى خريطة العالم فيتحول السودان ديموغرافيا وجغرافيا بعد أقل من أشهر ثلاث إلى دولتين، إستمرار الأمور على ما هي عليه يعني أنه سيعفي نفسه من هذه المهمة، فالرجل يوصف بالعناد وضيق الصدر وقلة الصبر، كما أنه يتميز بالإنضباط والدقة والصرامة وتطبيق المواد واللوائح بانضباط قانوني، فخبرته القانونية والنيابية والسياسية جعلته متمسكا، وأن الهدوء والحكمة والعقلانية سيدة الموقف لديه، وهذا المد القانوني والديمقراطي الذي يشير إليه المعجبون به كما دعا البرلمان الأستاذ خليل للعمل إلى استقلالية تامة ونزاهة في عمل المفوضية حتى يقرر الجنوبيون مصيرهم الذي يريدونه، لكن سرعان ما واجهت المفوضية صعابا جمة كعادة القضايا السياسية في السودان وكطبيعة العلاقة بين شريكي السلام في المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، فهما في مركب تتقاذفه الأمواج لدرجة إشفاق المراقبين على المصير، فالرجل تقلد المنصب والإتهامات تلاحقه هنا وهناك حتى في فترة انزوائه خلال العشرين سنة الماضية بعد أن كان ناشطا في العمل العام خلال الأنظمة الديمقراطية التي حكمت السودان وتقلد خلالها عددا من المناصب الدستورية أهمها وزارتا العدل والداخلية في ستينيات القرن الماضي ورئيس البرلمان في الثمانينيات، وقدم الأستاذ خليل من خلفية قانونية حيث كان أول أستاذ جامعي سوداني يتقلد منصب عمادة كلية القانون بجامعة الخرطوم وهي أعرق الجامعات السودانية، وتولى المنصب خلفا لأستاذ بريطاني بعد خروج الإستعمار البريطاني المصري من السودان ونيل البلاد استقلالها عام ,1956 وتخرج أساتذة وقانونون كبار على يده، عمل بعضهم وزراء في حكومات مختلفة وتولوا مناصب مهمة بما في ذلك وزارة العدل، كما عمل في السلك الديبلوماسي بوزارة الخارجية ردحا من الزمن، وبعد أن أطاح عمر حسن البشير بنظام الحكم في سنة 1989 نزل الأستاذ خليل من على خشبة المسرح السياسي السوداني، ثم غادر البلاد في تزامن مع موجة كبيرة شهدت هجرة معظم رموز الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والإعلامية والأكاديمية المناوئة للجبهة الإسلامية القومية التي سيطرت على مقاليد الحكم بانقلاب الجنرال عمر حسن البشير وحظر النشاط السياسي والإعلامي الحر، ذهب الرجل إلى الصومال وكتب دستور دولة أرض الصومال المستقلة، كما هاجر إلى عدد من الدول منها الكويت ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعمل بعدد من مراكز الدراسات البحثية مثلما هاجر بعد انقلاب النميري في سنة ,1969 ولما عاد الرجل من المنفى الاختياري ذهب في هدوء إلى مكتبه القديم في قلب العاصمة السودانية الخرطوم واستأنف عمله السابق في المحاماة في صمت وبعيدا عن الأضواء، وقدم استشارات قانونية لشركة كبيرة ولكن يبدو أن قدر الحياة العامة سيلازم الرجل طوال حياته، وبعد أن بلغ به الكبر عتيا وصلته برقية من الحكومة السودانية تخبره بأن المؤتمر الوطني في السودان قد رشحه لرئاسة المفوضية، وأن الحركة الشعبية قد وافقت على ذلك. هذا مع ضخامة مهمة الاستفتاء وحتى يكون دقيقا ومنضبطا وشفافا ويتصف بالمصداقية التامية ولا يحتمل أيما نوع من الخلل في الإجراءات، فعنصر الزمن وضيق الوقت وضعفه يخلق مشكلات، ومع هذا كله فالجنوبيون يرون في الرجل أنه عبر في مناسبة أو مناسبتين عن وجهة نظره الرافضة لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وكان له هذا الموقف لما أرادت الولاياتالمتحدة التدخل في الشؤون الداخلية للسودان عام 2002 باقتراحها على السودان إقامة نظامين في دولة واحد علماني في الجنوب وإسلامي في الشمال، لكن الرجل حاليا يقول أنه يعمل بالقانون والدستور الذي يتيح الفرص للناخب السوداني أن يدلي بصوته بغض النظر عما إذا كانت النتيجة تعجبه أم لا. ومع هذا فهناك ظلال من الشكوك تحوم حول نجاح الرجل القانوني والأكاديمي في الإمساك بدفة القيادة حتى نهاية المرحلة وعبور بحور الصعوبات والوصول إلى الصفة الأخرى لتنتهي أخطر عملية في تاريخ السودان حيث تخلط الكثير من الألوان التي ترسم صورة الرجل، هذا مع وصف الرجل بالدقة والإنضباط والصرامة والذكاء والدهاء، فالرجل اليوم يمسك بكل مصير السودان بين يديه، فالبلاد كلها مقبلة على الإنهيار ومع هذا فصفات الرجل ستساعده في إجراء استفتاء على قدر كبير من النزاهة والشفافية. ورغم ذلك فعواصف الغضب ستنتظره في حالتي الإنفصال أو الوحدة. وأخيرا الرجل يرى أن العملية إذا أسفرت عن وحدة طوعية فإن ذلك سيكون مهما جدا بالنسبة للسودان ومستقبله وكذلك على المستوى الإقليمي. أما إذا كانت النتيجة الإنفصال فإن ذلك بدوره سيكون حدثا مهما في تاريخ البلاد، وستترتب عليه نتائج وتداعيات مع أن الناخب السوداني له الحق والقول الفصل لإبداء رأيه بحرية تامة والمفوضية مسؤولة عن توفير المناخ الإيجابي المطلوب.