قبل سنوات قليلة مضت شكّل المغني لطفي دوبل كانو، ظاهرة فنية على الساحة الوطنية، على اعتبار الحشود الكبيرة من الشباب المعجب به، نوع موسيقي أسال الكثير من الحبر انتقادا له قبل أن يفرض نفسه ويؤكد مصداقيته، أسلوب غنائي، ليس في الجزائر فقط، فقد أصبح تيارا ثقافيا واجتماعيا لا يتوانى الكثيرون في اعتباره سياسية مناضل، على اعتبار أن كل المعتقدين به ينتهجون نظرة منتقدة لما يحيط بهم· اليوم سيكون الجمهور الجزائري، من قبيلة ''الهيب هوب''، على موعد مع واحدة إيقونات هذا التيار، المغنية الفرنسية ''ديامس'' التي عُرف عنها انتقادها لسياسة بلادها، سيما تجاه الأجانب والمسلمين، وقد كان إعلانها اعتناقها الإسلام السبب في موجة متناقضة بين مؤيد ومعارض اجتاحت فرنسا· في هذا الموضوع، نحاول من خلال مجموعة من المقالات التقرب من عالم غناء ''الهيب هوب'' في الجزائر على لسان الفاعلين فيه· لا يمكن للمار بساحة أودان، قلب العاصمة النابض، ألاّ أن يلاحظ تلك الأفواج من الشباب الذي بات يتخذ من المكان مركزا له، كل شيء فيهم يلفت أنظار المارة، بدءا من طريقة الكلام وصولا إلى هندامهم الذي يكاد يتحوّل إلى زي رسمي يضعهم في خانة مميزة· كل شيء يؤكد على أنهم منتمين لطائفة ما لها معتقداتها وأسلوبها في الحياة، تجدهم بالعشرات من الفتيات والصبيان، القاسم المشترك بينهم انشغالهم بسماع الموسيقى، فلا تكاد تخلو أذني الواحد منهم من جهاز موسيقي، يستمعون من خلاله إلى الموسيقى التي تميزهم وتجعل منهم طائفة موسيقية قائمة بحد ذاتها· موسيقى ''الهيب هوب'' التي باتت أكبر القواسم المشتركة بين الشباب ليس في الجزائر، وحسب، وإنما عبر العالم· هو تيار جعل علماء الاجتماع في العالم يصنفون أتباع هذا النوع الموسيقي بالقبيلة الجديدة التي تعمل على بقاء صفوفها موحدة، والحال أن المتفحص للشباب الجزائري المنتمي لقبيلة ''الهيب هوب'' يتأكد أنهم يتقاسمون ويتشابهون في أكثر من شيء، قصة الشعر، اللباس، الإكسسوارات··· وغيرها من المتعلقات بهذا التيار الاجتماعي والثقافي· الأدهى من كل ذلك، أن لهم مواعيد وطقوس خاصة بهم، حيث يمارسونها في الحفلات الخاصة بموسيقى ''الهيب هوب''، سواء كانت ''الراب'' أو ''التيك تونيك''· كانت مناسبة قدوم المغنية الفرنسية ''ديامس'' للجزائر بمثابة الحدث المهم بالنسبة لهذه الطائفة، على اعتبار أن المهتمين بهذا النوع الموسيقي في حالة غليان من أجل ضمان حضور الحفل الذي يعتبرونه حدثا مهماً لا يمكن تفويته· لمعرفة المزيد عن هذه الطائفة الموسيقية، كان لا بد من التقرب منها والحديث مع بعض الشباب العاصمي الذي يعتبر نفسه مهووسا بموسيقى ''الهيب هوب''· كانت سارة أولى من تحدثنا إليها، المثير أن بداية الحديث كان عن طريق الأنترنت، وبالتحديد على موقع الفايس بوك، صفحة ''هيب هوب عاصمة''، الموقع الذي يهتم بتفاصيل المعلومات والمواعيد الخاصة بهذا النوع الموسيقي· لم تكن صورة سارة مختلفة عن تلك التي كانت في مخيلتي عن شباب هذا النوع، اهتمام بنوع خاص من الموضة في الأزياء والتركيز على الأكسسوار، حيث تجدها على غرار بقية رفاقها يخلطون بين الموضة الحديثة والقديمة، طريقة في اللباس باتت تعرف باسم ''فينتاج''، على اعتبار أنها تأخذ من الموضة القديمة وتعيد أقلمتها مع الموضة الحديثة ولا داعي البحث عن أسماء مصممين معروفين، فالكرة في هذا النوع من الأزياء يقوم على الإبداع الفردي دون التقيد ببقية خطوط الموضة العالمية· أكدت سارة من خلال الحديث معها على أنها مهووسة بموسيقى ''الهيب هوب'' الأمريكية والبريطانية، على اعتبار أنها الأصل في هذا النوع، مؤكدة أنها موسيقى تتناسب مع مواقفها في الحياة· إذا ما سألتها عن هذه المواقف تجيبك بفرنسية عامية لا تختلف كثيرا عن فرنسية شوارع باريس: ''الأمر لا يتعلق بمجرد مواقف وإنما نمط حياة خاص بالشباب أو الأصح بالمراهقين، فنحن في كثير من الأحيان لا نتفق مع من يكبرنا سنا، هي موسيقى مناهضة للوضع القائم ورافضة للنمطية، في اعتقادي هذا أكثر ما يميز هذا النوع من الموسيقى الذي أصبح أسلوبا في الحياة يمتد من طريقة الكلام إلى طريقة اللبس''، نمط حياة يشمل اللبس، الموسيقى وحتى الأكل، على اعتبار أنهم يفضّلون الالتقاء في قاعات الشاي والصالونات المعروف عنها بثها موسيقى ''الهيب هوب''، حيث يتاح لهم فرص استعراض رقصهم المتميز على غرار ''التيك تونيك''· لا تخفي سارة خشية أهلها عليها من سيرها على خطى هذه الموسيقى، وهذا التيار الذي امتد من مجرد غناء إلى ثقافة استحوذت على الشباب الجزائري على غرار شباب العالم· المثير أن هذه الثقافة الجديدة لم تقتصر على الصبيان، حيث أن الفتيات هن كذلك أصبحن مهتمات بهذا النوع بالرغم من تلك النظرة الدونية التي قد ينظر بها المجتمع لهذا النوع من الفتيات، بهذا الخصوص تقول سارة، إن مسألة رفض المجتمع جوهرية بالنسبة لوجودهم: ''المسألة كلها تكمن في الرفض، نحن نرفض المجتمع وهو يرفضنا في حال ما إذا كان راضيا عنّا، فذلك يعني أن هناك خللا ما، قد يقول البعض إن الأمر مقتصر على المراهقين، لكن الأمر يتعلق بطريقة نضوجنا، هذا النوع الموسيقي يعلمنا كيف نكون ناقدين لكل ما حولنا''· مثل هذا الحديث يشبه الخطابات السياسية، غير أنه صادر عن شباب في مقتبل العمر يشق طريقه عن طريق الموسيقى لعالم الكبار، حيث وجد في هذا النوع سبيلا للتعبير عن نفسه والتأطير ضمن مجتمع وجد لنفسه قواعد وقوانين، هو مجتمع ''الهيب هوب''، الذي تجاوز مجرد الترفيه ليصبح تيارا مجتمعيا قائم ابحد ذاته· مغني الراب حليم ''أش تي أم'': هناك أغاني راب هادفة، لذا لا يجب أن نضع الكل في خانة واحدة يتحدث حليم ''أش تي أم'' عن أسباب اختياره الراب عن غيره من الأنواع الموسيقية الأخرى بالقول ''أن هذا الفن يحمل رسائل من وإلى المجتمع''، مضيفا أن الراب ليس فقط الجرأة وكسر الطابوهات وإنما هو أيضا رسائل هادفة تحمل رسائل للشباب· كيف جاءتك فكرة أداء موسيقى الهيب هوب دون غيرها من الأنواع الموسيقية الأخرى؟ لقد جاء اهتمامي بموسيقى الهيب هوب والراب دون غيرها من الطبوع الموسيقية الأخرى بسبب ما يحمله هذا الفن من رسائل من وإلى المجتمع، كما كان اختياري لهذا النوع الموسيقي راجع إلى كون هذه الموسيقى جامعة لمختلف الفنون، فالهيب هوب يجمع بين الشعر والموسيقى الحالية والرقص المميز وغيرها من الفنون الأخرى التي يضمها هذا الطابع، كما أن الهيب هوب يهتم كثيرا بهموم الشباب وكيفية إيصالها من منبعها الذي يكون في معظم الأحيان الأحياء الشعبية وصولا إلى مختلف المناطق التي تشكل في الأخير المجتمع الجزائري الذي يشترك في نفس المشاكل والهموم· وهل جرأة الكلمات في هذه الأغاني هو ما يجذب الشباب إلى هذا الطابع الغنائي؟ لا أعتقد أن شباب اليوم تستهويهم تلك الجرأة الخارجة عن اللزوم، صحيح أن الراب في مجمله يتطرق إلى مواضيع جريئة، بطريقة خارجة عما تعود عليه الجمهور في مختلف الطبوع الغنائية الأخرى، لكن أعتقد أن هذا لا يخفي حقيقة أن هذا النوع الغنائي عموما تتمحور مواضيعه في حدود الكلمة المحترمة، وهذا ما يخلق ذلك التفاعل الخاص بين مغني الهيب هوب وجمهوره الذي يكون في مجمل الحالات من الشباب والمراهقين· وما رأيك في النظرة الجزائرية لمثل هذا الفن الذي يعتبر في بعض الأحيان تمردا على الواقع؟ أعتقد أن الكثير من الجزائريين، باستثناء المهتمين بطابع الهيب هوب والراب، ينظرون إلى هذا الطابع الغنائي كفن دخيل على مجتمعنا بشكله وأدائه ومضمونه، فالكثير يعتبره ثقافة دخيلة على المجتمع الجزائري، أنا شخصيا متأكد من ذلك، لكن الشيء الواضح والجلي أن الراب لم ولن يؤذي المجتمع باستثناء بعض الحالات والأغاني الشاذة التي نراها في الأنترنت التي تمس بشرف بعض العائلات، فالهيب هوب حتى وإن دخل حديثا إلى بلادنا، فهو فن يناسب الأمريكيين كما يناسب الأوروبيين والأفارقة في التعبير عن مشاكل وهموم الشباب، كل منهم حسب وضعيته الاجتماعية والسياسية وهمومه التي يريد أن يتحدث عنها في أغانيه، لكن في الآونة الأخيرة أصبحت نظرة المجتمع الجزائري إيجابية مقارنة بما كانت عليه في السابق، هذا شيء واضح وجلي· في الحديث عن الراب في السنوات الأولى من ظهوره في الجزائر، ما الاختلاف بينه وبين الراب الحالي؟ أعتقد أن الراب في الفترة الحالية أفضل منه في الفترة الأولى من ظهوره، الشيء الوحيد الذي كان جميلا في تلك الفترة هو ذاك الكم الكبير من الفرق ومؤدي الراب الذي يخلق مناخا جميلا للمنافسة، هذا الذي يفتقده مؤدي الراب في الفترة الحالية، فباستثناء ''لطفي دوبل كانون'' الذي صنع اسما ونوعا خاصا به، بالإضافة إلى ''أبوكا'' الذي مزج الراب بالراي، لا نرى الكثير من المغنيين في الساحة الفنية الجزائرية يحملون لواء بقوة ''حاما بويز''، ''أم بي أس'' أو ''فرقة ط أنتيك''· وماذا عن غياب الراب عن الإعلام الرسمي، إلى ماذا يعود ذلك حسب رأيك؟ في الحقيقة وفي الكثير من الأحيان التلفزيون الجزائري يبقى معذورا في هذا الاختيار، فبالنظر إلى طبيعة المجتمع الجزائري المحافظ، فبعض الأغاني من نوع الراب ليست مرغوبة في الأسر الجزائرية سواء في الموضوع أو طريقة معالجته، لكن لا يمكن لنا أن نغفل أمرا مهما أن هناك أغاني من نوع الراب تحمل رسائل هادفة، وبطريقة محترمة، لذا لا يجب أن نضع الكل في خانة واحدة·