''بأي الكلمات يمكن ملء الصفحات البيضاء لنقل الحقيقة؟''، تتساءل مؤلفة الكتابة في النهاية وتحاول الإجابة قائلة ''في مثل هذه الحالات تكتشف إما قصور اللغة أو قدرتك على نقل هذا الواقع، ومع ذلك من الواجب الاستمرار في الحديث والتأكيد على المأساة''. إنها ''حكاية ثلاثة أيام تحت الحصار''، كما جاء في العنوان الثاني لكتاب ''رأيت غزة''، للكتابة الصحفية سامية بلقاضي، الصادر أخيرا عن منشورات سقراط. وكان الرهان في الكتاب منذ البداية هو كيف يمكن الكتابة عن مأساة شعب محاصر، تحوّلت يومياته إلى مجرد مادة خبرية للفضائيات العالمية وأصبحت من قبيل العادي، وأصبحت الصور التلفزيونية من شدة تواترها تكاد لا تثير في المتلقي الأجنبي أي من المشاعر، وكان لا بد من القيام بتلك الرحلة على قصر مدتها من أجل ترجمة الصور إلى كلمات وإعادة إحياء المأساة من جديد. من الجزائر إلى القاهرة جوا، ثم إلى العريش ومنه الدخول إلى قطاع غزة عبر معبر رفح، إنها رحلة في الزمن العربي ورحلة في الجغرافيا، حيث تتمدد المأساة في الزمن المنسي وتأخذ بعدها السرمدي، وربما هذا هو السبب في أن مجرد ثلاثة أيام في القطاع المحاصر من كل جهة كانت كافية لتدوين كتاب كامل خاليا من الصور الفوتوغرافية إلا من صور المعاناة التي تنساب بين الكلمات وتتمدد مع مرور الصفحات إلى غاية انتهاء الكتاب واستمرار المأساة ككتاب ''رمل'' بمفهوم الكاتب خورخي لويس بورخيس، وهو يتحدث عن ذلك الكتاب السحري الذي ليس له بداية ولا نهاية، تماما كمثل معاناة سكان القطاع المحاصر الذي أصبح أطفاله كبارا قبل الأوان وهم يتكلمون عن المأساة تماما كمثل حديث الشيوخ الحكماء عنها. ولم يكن الطريق إلى غزة سهلا فهو محفوف بالموانع من كل جهة، ولا عجب أن أخذ هذا الطريق نصف الكتاب وأخذت أيام غزة الثلاثة نصفه الآخر، فلا يستقيم الحديث عن القطاع من الداخل إلا إذا تم وضعه في إطاره الخارجي حتى تصبح الصورة أقرب إلى الحقيقة. ورغم أن الزيارة كانت خاضعة لبرنامج محدد، إلا أن الصحفية كانت ''تتحايل'' قليلا من أجل اكتشاف المزيد من الواقع الغزاوي على لسان أهله، من الذين تمكنوا من الإبداع في الحياة والتنفس قليلا من خلال روح النكتة التي كانت حاضرة في كل حين، مثلما أبدعوا في شق الأنفاق، وبعض الشباب كان يجيب عن سؤال الصحفية المتعلق بمن يعمل في الأنفاق بالقول: ''المفروض تسألي مين ما بيعمل في الأنفاق، لأنو غزة كلها بتشتغل بالأنفاق، تقريبا في كل بيت تلاقي حدا إلو علاقة بالأنفاق''.