''إن العز في النقل''، قول مأثور عن الإمام علي يلخص الموقف الذي يجب أن يتخذه المسلمون من الهجرة وترك الأوطان· ومداره أن البحث عن الرزق والكرامة ضرورة إنسانية ودينية· وهو بكل المعاني تفسير لآية قرآنية تسائل المؤمنين: ألم تكن أرض الله واسعة لتهاجروا فيها· وعلى الرغم من أن ظاهرة الحرفة قاسية وعنيفة، وأن البحر عباب هائل تتقطع فيه الأسباب، إلا أن الظاهرة تثير الإعجاب بقدر ما تثير الشفقة والغضب· ولمن لا يعرف التاريخ نذكّره بأن الهجرات كانت دائما، ومنذ فجر التاريخ، مناط كل تقدم عرفه الإنسان· ما كان للإنسان أن ينتقل من أطواره الأولى، إلى مجتمع الحضارة والمدنية لو لم يكن حرافا بالدرجة الأولى· ويرى أورنولد توينبي أن حضارات وادي الرافدين ثم الحضارة الفرعونية إنما كانت نتيجة هجرات الإنسان هربا من قسوة التحولات المناخية· وكانت التكاليف في كل الهجرات باهظة يدفع فيها جزء من الحرافين حياتهم، ضريبة يدفعونها إلى الطبيعة· وليست ظاهرة الحرفة الجزائرية، التي هي جزء من ظاهرة الهجرات من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها، إلا جزءا من طبيعة الإنسان في اللحظة التي تضيق فيها عليه سبل العيش· ومن مساوئ الحضارة الغربية تجريم الهجرة التي لا تخضع لقوانين الدول والتكتلات الجهوية· ومن العبث، اليوم، الحديث عن الأسباب التي تدفع الجزائريين إلى ركوب البحر والمخاطرة بحياتهم، فإنها معروفة: الطالة وسوء العيش، وانسداد الأفق· نقطة إلى السطر· الذي يهمنا هو موقف السلطة من الحرفة في التقائه، في كل نقاطه، بموقف الدول التي تصفها بالهجرة السرية، وتحث دول الجنوب على محاربتها، بل وإنفاق الأموال وتجييش الجيوش لمحاربتها· ولا ننسى أن الحرفة في الجزائر جريمة يعاقب عليها القانون، وفعل محرّم تحت طائلة فتوة رسمية· ولنعد إلى التاريخ مرة أخرى: أولم تكن الظاهرة الاستعمارية كلها حرفة من النوع المنظم· حرفة تخلصت فيها الدول الاستعمارية من فائض سكانها لتوجههم إلى الفردوس الموعود في إفريقيا وآسيا وفي القارة الأمريكية· وهذا أمر يعرفه جيدا الجزائريون، وقد عانوا قرنا وربع قرن من آثار حرفة رسمية منظمة لم تفعل شيئا سوى سلب ونهب خيرات البلاد· حتى إذا انقلب السحر على الساحر ملأ الأوروبيون الدنيا عويلا ضد ''الهجرة السرية''، وأحاطوا القارة القديمة بأسوار من فلاذ ضد شباب أفارقة يبحثون عن لقمة عيش وراء البحار· والمشكلة الأخرى أن بلدان الجنوب لم تحسن التصرف في هذه الظاهرة· فبدل أن تتخذها ورقة للتفاوض والضغط راحت تحاربها بقوة وشراسة أتعس من قوة وشراسة الأوروبيين· وقد فهم الأوروبيون، في السنوات الأخيرة، أن الهجرة ظاهرة صحية، فراحوا يوجهونها إلى ما يخدم مصالحهم، عن طريق ما يسميه الفرنسيون بالهجرة الانتقائية: لا يقبلون من المهاجرين إلا صفوة الصفوة من خريجي الجامعات وفي المجالات التي يحتاجون إليها· وكان بإمكان الجزائر، وسائر دول الجنوب، أن تفرض على الأوروبيين قبول كوتات من المهاجرين غير المؤهلين، أو مقابلا يساعد على إيجاد فرص عمل للمرشحين إلى الحرفة، تماما كما دعا القذافي·