في دراسة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه، بجامعة ليون الثانية، بعنوان ''بوجدرة وكونديرا''··· قراءة ''جسد مفتوح''، استنتجت الباحثة ريم خريجي في دراسة مقارنة، أن الروائيان الجزائري والتشيكي، يلتقيان في عالمهما الروائي عند مسألة المعاناة النفسية التي تؤرق شخصيات تعاني من السلطة الأبوية· ومن هذا المنظور تعيش سارة (وهي ضابطة شرطة)، بطلة رواية ''الجنازة'' لرشيد بوجدرة، بمفردها في منزل العائلة بعد أن توفيت والدتها· في هذا الفضاء المغلق، تستعيد علاقتها المضطربة مع والدها الذي رأته ثانية بعد سنوات طويلة خلال مراسيم جنازة والدتها، فتقوم بطرده، ليتخفي مجددا، ولاحقا تصلها أخبار وفاته عبر الجرائد· سارة امرأة مضطربة، مثل كل شخصيات بوجدرة، رغم شخصيتها العاشقة للجنس والحياة والمدن الغامرة باللذة، لم تعرف والدها الذي غادر البيت منذ فترة طويلة واختفى بعد أن اتهم زوجته بالخيانة، اختفى دون أن يبدي أي إحساس بالغيرة كأي رجل عادي لو كان الأمر صحيحا، وذلك ما يثبت سوء نيته· هذه العلاقة المضطربة مع الوالد، تشكل محور أعمال بوجدرة منذ روايته الأولى ''التطليق'' التي تختزن علاقة مضطربة بين الراوي ووالده ''سي زوبير''· وفي ''الجنازة'' تزداد العلاقة اضطرابا، إذ تشمل عم سارة المدعو حسين لاعب الشطرنج الماهر الذي يتربص بالأغنياء الجدد ''لترييشهم''· وتعمقت مأساة سارة أكثر، وهي ما تزال بعد فتاة يافعة عندما تعرّضت لاعتداء جنسي أفقدها عذريتها، من طرف رجل في الخمسين، وهو عشيقها الأول ويراودها إحساس بأنها ضحية مجتمع شرس، سادي وعنيف إلى حد كبير· تدرك سارة أن مصير الطفلة سارة يشبه مصيرها، لذلك تتشبث بها وبصورها وتجري تحقيقات دقيقة للتعرف على القتلة، في محاولة منها لفعل شيء ينتزعها من أوجاعها· ومن هنا يدرك القارئ أن الموضوع الرئيسي في الرواية يكمن في تشابه المصائر، وفي تجدد التراجيديا والمأساة عبر الزمن· حتى أن أم سارة وهي تشاهد رعب المجازر التي ارتكبها الإرهابيون عبر شاشة التلفزيون تقول لابنتها ''لكنهم أبرياء''، تقول وهي لا تتجرأ على القول ''إنهم أبرياء مثلي لم يسبق لي أبدا أن خُنت والدك بالرغم من تشجيع أخي''· والأخ في الرواية لا يحترم زوج أخته نظرا لمواقفه السياسية السلبية خلال حرب التحرير· ولتجاوز محنتها تترك الأم نفسها تنساق وراء نوبات من الأوجاع تدوم أسابيع عديدة، فتنغلق على نفسها، هذه السلبية لا تميز ابنتها سارة العاشقة للحياة، التي تتجاوز المأساة بواسطة الانسياق وراء عاطفة الحب وعشقها المتأجج لسليم، كما تقوم بفعل آخر لا يقل نبلا، وهو الكتابة، إذ تشرع في كتابة تقارير على شكل نصوص أدبية مطولة، ترد في المتن الروائي بأسلوب مختلف أكثر شاعريةئ· تشرع سارة في كتابة بعض من تفاصيل كيفية اغتيال الطفل علي الثاني، وبعد إحساسها بالهدوء وهي تمارس فعل الكتابة تقول ''جاء الربيع هذا العام رديئا، سائلا وأدركت أن السعادة تكمن في الخربشة على أوراق بيضاء، ملساء، حتى وإن تعلق الأمر بمجرد تقرير شرطة''· وكلما شرعت سارة في الكتابة، وتركت نفسها تنساق وراء الحياة الرقيقة مع سليم، إلا وعاد الواقع القاسي ليفرض نفسه مجددا واستطاع بوجدرة بواسطة أسلوبه الروائي المتدفق، الذي يكتب بإحساس يجعله في علاقة مع العالم حوله، أن يجعلنا نحس بهول الإرهاب حولنا بمثل هذه الجمل ''وارتفع عنف الأمطار'' كمعادل موضوعي لما يجري· تترك سارة، إذن، أوراقها الملساء، وتغرق مجددا في أوجاع ذاكرتها، وتنظر إلى عنف الطبيعة عبر النافذة التي أوجدت الفوضى في الحديقة أمامها، تماما مثلما حلت الفوضى والمأساة في حياة ثلاث نساء، أمها التي اتهمت بالخيانة، أم عشيقها سليم التي لفقت لها بدورها التهمة ذاتها جزافا بعد أن عانت طويلا من تنقلات وأسفار زوجها الغائب عن البيت دائما، المتنقل بين البلدان وبين زوجاته الأخريات، وبيا (بياتريس) صديقة أم سليم وزوجة المناضل الشيوعي المنحدر من الأقدام السوداء فرناند إيفتون الذي ساند الثورة الجزائرية وأعدم في سجن سركاجي يوم 23 فيفري .1957 مأساة بيا وأم سليم يرويها عشيق سارة في إحدى رسائله لها، حيث ندرك أن أم سليم غرقت في الشقاء والصمت وبقيت ملتصقة بآلات خياطتها، تبكي كثيرا وتتألم، إلى أن اقتنعت أنها مخطئة فعلا، وكأن المجتمع العنيف الذي تعيش في وسطه أوصلها إلى الاقتناع بجرم لم ترتكبه وهو الخيانة الزوجية، ولم تتجاوز مأساتها الشخصية إلا بعد أن تعرفت على بيا زوجة المناضل الشيوعي التي تعرفت عليها سنة 1977 وغرقت بدورها في الشقاء لأن زوجها حكم عليه بالإعدام فحرمت منه، بالتالي هي ضحية أخرى، ضحية التاريخ الإستعماري هذه المرة· ومن معرفتها بهذا المناضل قررت أم سليم التخلص من مأساتها بواسطة تتبع أدق تفاصيل حياته، بعد أن تعاطفت مع زوجته الأرملة ''بيا'' وكأن الرواية تريد أن تقول إن الفكاك من المأساة لا يتم إلا بواسطة التعاطف مع شخوص عرفت المصير ذاته· وندرك كذلك أن شخصيات الرواية تتصل مصائرها وتتداخل، فكلها تتخلص من شيء يحاصرها نفسيا، بعد أن تعرّضت لعنف الآخرين، الاستعمار، النظام الأبوي والإرهاب حتى سارة لم تغرم بضابط الشرطة سليم إلا بعد أن قرأت الرسالة التي أرسلها لها، ودوّن فيها بعض من تفاصيل حياته، وعُقده (علاقته المضطربة مع توأمه)، فأخبرها أنه درس لدى الآباء البيض، وأنه مهووس بالفلسفة، وبالأخص مؤلفات أرسطو وسبينوزا حول الأخلاق، وربما هذه الفلسفة هي التي جعلت سليم أقل اندفاعا في مواجهة الإرهاب مقارنة مع سارة التي لا تريد نسيان ما جرى للطفلة الصغيرة وعلي الثاني والقاضي مالكي، فيطلب منها في رسالته أن تتخلى عن الأفكار التي تعذبها، وتتخلص من فكرة العثور على عين الفتاة سارة التي انتزعها منها فليشا بعد أن اغتالها، وأن ترجع محفظة علي الثاني لعائلته· ولم تأخذ سارة بوصاية سليم، فأعطت زوجة القاضي مالكي سلاحا لكي تبحث عن قاتل زوجها، في إشارة منها إلى رفض المصالحة مع جماعة فليشا، وتمسكها بأشياء سارة وعلي الثاني، يعني عدم استعدادها لنسيان ما جرى مفضلة المصالحة مع عمها حسين، ومع باقي أفراد العائلة، خاصة وأنها أدركت أن فليشا (هذا الإرهابي السريع، الميال للقتل) أقل قيمة من الحلزون الذي أدركت قيمته· فالحلزون كما جاء في الرواية بطيء على خلاف فليشا السريع، لكنه يرمز للخصوبة حسب اعتقاد الهنود المكسيكيون·