يشهد عالمنا العربي الإسلامي الكارثة الكبرى منذ حوالي نصف قرن، ومع هذا يواصل قادتنا وأولياء أمورنا في تخديرنا وتنويمنا مغناطيسا. وخير دليل على ذلك هو تطميناتهم لنا بعدم تأثرنا بالأزمة العالمية التي هددت ولا زالت تهدد النظام العالمي منذ حوالي سنة تقريبا. وهي الأزمة التي تنتشر كالوباء مدعومة بميكانيزمات معقدة وغير محسوسة. لقد تغنى، مؤخرا، رئيس لدولة أوروبية تدعي صداقتها للعالم العربي بالمعجزة التونسية، مؤكدا، ومن دون تردد، بأن هذا النصر نابع من قناعة التونسيين بعدم قدرتهم على إسقاط الطائرين بالحجر الواحد. وبمعنى أدق عدم تمكنهم من تحقيق الرخاء الاقتصادي في ظل مطالبتهم بالديمقراطية والحريات الأساسية. ولعل أن تصريحات هذا الرئيس تكشف بوضوح رؤية الغرب لبقية دول العالم وخاصة دول المغرب العربي الخاضعة للاستبداد والدكتاتورية التي تجعل دمقرطة القارة الإفريقية أمرا محتوما النقاش فيه. إن الديمقراطية التي لا طالما تفاخر بها الغرب وجعلها عنوانا ''لحملاته الحضارية'' قد تكون مصدر قلق له أكثر من المغاربة أنفسهم، لأنها ستكون الأداة التي ستحطم الأنظمة التي تخدم مصالحه في المنطقة أولا وأخيرا. وغير بعيد عن تونس، وفي الجزائر بالتحديد، كان رئيس الوزراء أحمد أويحيى يؤكد وبكل ثقة بأن الجزائر بعيدة كل البعد عن التأثيرات السلبية للأزمة العالمية، ليعود بعدها الرجل عن كلامه المشبع باليقين ويدق ناقوس الخطر، مؤكدا على مدى هول الكارثة، وهو الذي كان محل انتقاد لاذع من قبل نائبة رئيس البرلمان التي تعد واحدة من المخلصين لسياسة الرئيس، حيث اتهمته بتكريس معاناة الشباب لدرجة فقدوا فيها كل أمل. أما بالنسبة لموريتانيا العالقة في وحل ''إفريقيا الفرنسية'' فقد تحوّلت إلى معسكر للمرتزقة وقاعدة لدعم العمليات العسكرية الفرنسية في الساحل. والأمر لا يختلف كثيرا في المغرب التي دخلت في عزلة تامة عن ما يدور من توترات وأحداث حاليا. فها هو الوطن العربي اليوم يهتز على وقع الأزمات الحادة التي لا تختلف في صورها وأشكالها، وأن اختلفت في الزمان والمكان: تكسير وانقلابات ومظاهرات عنيفة في الشوارع والطرقات، تلاشى على إثرها الحكم التونسي القائم على النظام البوليسي المرعب، كما يتلاشى قصر من الرمال مخلفا وراءه عائلة من المجرمين على غرار عائلة الطرابلسي التي حوّلت بلدا صغيرا وجميلا إلى إمبراطورية من الرشوة والفساد، ليكون بذلك النظام التونسي نموذجا يمثل عودة عهد الإقطاعية الذي ظهر على حساب الجمهورية التي حوّلت غصبا إلى إمبراطورية. إلا أن ما حدث في تونس الشقيقة من أزمات أثرت بشكل أو بآخر في جارتها الجزائر، يلزمنا على قراءتها والاستفادة منها أيما استفادة: بعد فشل الغرب في إحياء نظام الخليفة الذي دمر عن آخره من قبل الضباط الأتراك الديمقراطيين سنة 1923 وكذلك فشله في غرس ثقافة التجنيس، اتجه تفكير المخططين والخبراء الاستراتيجيين في المنظمات والجمعيات الخفية إلى إنشاء إمبراطورية عربية إسلامية يكون مقرها الرئيسي هو العربية السعودية التي انضمت إلى هذا النادي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا بغية خلق قطب فعال لاتخاذ القرارات وتنفيذها في الشرق الأوسط، إذ تحميه وتفرضه العنجهية العسكرية الصهيونية وتغذيه وترعاه اليد السعودية التي عرف نظامها عدة اهتزازات وثورات أخمدتها التدخلات العسكرية لحلفائها من الدول الغربية على غرار ثورة 1979-1980 التي انتهت بتصفية الجنود المتمردين (3000 جندي) من قبل قوات التدخل الخاصة في الجيش الفرنسي GIGN حيث تم خنقهم بالغاز السام. وقد كانت عودة الإمبراطورية السعودية الجديدة عاملا قويا في تحول الجمهوريات الدستورية إلى مجرد جمهوريات مطلقة، تخدم في الأساس إرادة الإمبراطورية العميلة الجديدة. هكذا إذا سيطر الدكتاتوريون على الحكم في الدول الخاضعة، وهكذا سيطر أبناؤهم وعائلاتهم على الثروات الوطنية واستغلوها لحسابهم الشخصي، كما هو الحال للنظام التونسي المطرود وإن لم يكن المثال الأوحد. فالكثير من الدول العربية أصبحت هدفا سهلا لهذا المخطط الجهنمي بعد الرحيل المثير للشكوك لشخصيات من أمثال بومدين وبورقيبة وناصر وغيرهم. ولكن كيف تم تجسيد استراتجية كهذه في ظل بحر من أزمات الهوية وكيف تفاعل مع الأزمات متعددة الأصعدة؟ لطال ما سعت الاستراتيجية الأمريكية المسطرة بدقة لا متناهية بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال جمعيات ومنظمات سرية مختصة (بيلدبورغ- تريلاتيرال) إلى دعم الحركات التحريرية والمساهمة في بناء الدول الوطنية لتنفذ بعده مخططا أكثر خطورة وتعقيدا يتمثل في استبدال النظام العسكري التقليدي المتهرئ بنظام استعماري جديد: فبتطويرها لقدراتها على المعرفة والفهم ومن ثمة التدخل، استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تهزم المعسكر السوفيتي معتمدة على نموذجين ساعداها في حربها الأيديولوجية ألا وهما: النموذج الديمقراطي والنموذج التيوقراطي (الرمزي). فما يجري حاليا في الوطن العربي يندرج في إطار حتمية إعادة ترتيب أدراج النظام تحت قيادة إمبراطورية العم سام. وإن كانت مهمة دركي العالم تبدو سهلة بالنسبة للدول التي لازالت تحت تأثير الاستعمار التقليدي على غرار ساحل العاج ودول خليج غينيا في إفريقيا ودول جنوب شرق آسيا ودول أوروبا الوسطى، إلا أنها تبدو صعبة ومعقدة جدا عندما يتعلق الأمر بدول تحررت واستقلت بالحروب والكفاح، وهو الأمر الذي يستدعي استخدام إمبراطورية رمزية تعمل عمل الطعم وهما تماما ما تقوم به العربية السعودية. وفي ظل الوضع الذي يقلقنا كجزائريين وعرب، تستمر الإستراتيجية الأمريكية في تطوير نشاطها المرتكز على تمرير جملة من الآليات التي تضع الاقتصاد الفوضوي والموازي في خانة الاقتصاد المنظم والمراقب والموجه، الأمر الذي سيخل بالتوازنات والتحالفات بين اللوبيات ودوائر القرار، حيث سينقسمون بين مؤيد ومشجع للانفتاح على النموذج العالمي المسير من قبل البنوك الدولية والشركات متعددة الجنسيات وبين متشبث بالاقتصاد الموجه والمخطط حفاظا على سيادة الدولة. إن ما حدث في تونس وظهرت ملامحه في الجزائر يعبر تماما عن خطورة هذا البرنامج الموجه والمخطط والمدبر على الرغم من طابعه الفوضوي. ومما لا شك فيه فإن الأوضاع في تونس قد انحرفت عن إرادة المخططين على اعتبار أنها أخذت أبعادا أخرى، وهذا يرجع إلى استفحال الرشوة والفساد لدرجة لا تطاق، إضافة إلى استغلال أموال الدولة لأغراض شخصية. إن الشعب التونسي أمام مفترق الطرق، وعليه فهو مطالب باتخاذ القرار الذي سيحدد مستقبله. ولعل أن إرهاصات الحل تأتي من النخبة التي تعمل جاهدة من خلال الجمعيات والمنظمات في سبيل الحيلولة دون عودة نظام الحكم السابق وكذا منعه من إعادة تشكيل نفسه. كما أن تضحية الشعب التونسي لابد وأن تكلل بإنشاء مؤسسة تكون بمثابة الجدار المنيع الذي يحمي الأمة من السلطة العسكرية والسطو الإجرامي. إن الأزمة التي شهدتها بلادنا في الآونة الأخيرة، والتي تم خنقها في مهدها خشية أن تنزلق الأمور وتأخذ نسقا مشابها لما حدث في تونس، منع من تشكل رؤية موحدة تكون نقطة انطلاق جديدة. ومن الواضح أن تأثيرات العشرية السوداء والخلافات والأحقاد لا تدع أمام الجزائريين سوى اللجوء إلى الطريقة التونسية حتى يؤمّنوا أنفسهم انحرافات المافيا المتحالفة مع الأطراف المعادية للوطن.