عدنا مع عبد القادر بن دعماش، بصفته باحثا نشيطا في مجال أغنية الشعبي، ومحافظا لمهرجان سنوي، للتفصيل في بعض المعطيات التاريخية التي جاءت في العمل ''النوستالجي'' للمخرجة الفرنسية سافيناز بوزبيع، الجزائرية الأصل، وابنة سفير سابق، في فيلمها الوثائقي الأخير ''لغوسطو: ملوك الشعبي''· أولا هل أنت على علم بإنجاز فيلم وثائقي ''الغوسطو'' عن أغنية الشعبي من قبل الفرنسية سفيناز بوزبيع؟ نعم، منذ زمن طويل وأنا على علم به، من أول وهلة فكرت صاحبته في إخراجه· وقد طُلب مني المساهمة في مضمونه، وكان ذلك في فترة 2006-,2008 حيث كنت مشغولا وغير متفرغ أولا، ولأنني لم أهضم الموضوع ولم أفهم القصد منه، وكعادتي، لا أخوض في المسائل التي تصعب عليّ استيعابها، كنت عاجزا عن تحديد بداية ونهاية مثل هذا العمل، خاصة وأنا أعلم أن صاحبته لن تكتفي بالصور والتسجيلات التي أنجزتها هنا بالجزائر، بل ستضيف أخرى قد تغير من خطه· فيما بعد علمت أن سافيناز أعدت موضوعها واشتغلت مع مجموعة من الفنانين الناشطين في عالم الشعبي الآن، منهم ابن الحاج العنقى الهادي حلو، عبد القادر شرشام، عبد المجيد مسكود، وموسيقيين كثيرين· لاحقا، بلغني ككل الجزائريين خبر تنظيم حفل شعبي بالمسرح الوطني، وفهمت أن الهدف الأساسي من الفيلم، هو استعادة العلاقات الودية بين الجزائريين المسلمين والجالية اليهودية ببلادنا· الحفل نظم بأوبرا الجزائر ليلة الفاتح نوفمبر ,2006 ما هي قراءتك للتوقيت؟ سياسيا، لا يمكنني تفسير التوقيت، أعرف أن المناسبة نظمتها الدولة الجزائرية، ممثلة في مؤسسة التلفزيون الجزائري، أعضاء الفرقة كانوا كلهم جزائريين، فيما ذهبت المجموعة إلى جولات بفرنسا وبلجيكا، وفجأة علمت بأن عناصر يهودية انضمت إلى الفرقة· بطبيعة الحال لم أعترض على الفكرة في حد ذاتها، لكن اليوم عندما أرى أن الفيلم الوثائقي يستعمل تاريخ أغنية الشعبي لتمرير مغالطات كبيرة، لا يمكنني أن أصمت· الفيلم مبني على فكرة أساسية، وهي أن أغنية الشعبي هي نتاج تقاطع بين المسلمين واليهود في قصبة الجزائر، وأن التعايش والانسجام الاجتماعي الذي كان بينهم ولد حبا مشتركا لموسيقى واحدة؟ موسيقى الشعبي هي موسيقى دينية في الأصل، كلمة الشعبي جاء بها البودالي سفير في ,1946 وعندما نقلب صفحات التاريخ في القرن العشرين، نجد أن كل الذين غنوا الشعبي، هم مداحين أدوا أغاني في مدح الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وحب الله تعالى، تردد أغانيهم في الموالد والأعياد والمناسبات الدينية· وظل الشعبي من 46 إلى 54 إلى 62 يحمل في طياته روحا دينية، ولم يحدث في أية مرحلة من مراحل، أن تدخلت عناصر يهودية في تطويره أو تدعيمه أو المحافظة عليه· القصبة عاشت فيها أقلية يهودية بالفعل، لكن غالبية السكان كانوا الجزائريين المسلمين، وبالتالي الشعبي الذي كان أساسا مديحا، ما كان لليهود أن يتدخلوا فيه، لأن مضمونه ديني، حتى مطربو الشعبي كانوا ينعتون بالمداح، مثل الشيخ العنقى (الحاج محمد المداح)، عبد الرحمن السعيدي (الشيخ عبد الرحمن المداح)، سعيد لعور (شيخ سعيد المداح)، حتى محي الدين بشطارزي في الأندلسي كان ينعت بالمداح· كل النشاطات الموسيقية في هذا الميدان المسمى شعبي الذي كان يسمى مديح ديني قبل ,47 لا علاقة له باليهود· لا ننكر وجود موسيقيين في الجوق الشعبي، عازفين على آلة القانون مثل بونوا لافلور، لكن عددهم قليل لا يتجاوز ستة أفراد، لا يمكن أن نقول إن جالية كاملة شاركت في تأسيس حقيقي لأغنية الشعبي أو شاركت فيه، بدليل أن كبار المداحين، في حفلاتهم وجلساتهم، كانوا يشرعون في الصلاة على الرسول الكريم، عندما يدق منتصف الليل، ما كان يجبر العازفين اليهود على المغادرة إلى بيوتهم، وهي عادة كان يعمل بها في الجزائر وقسنطينة وعنابة· مسار الأغنية الأندلسية مختلف عن الشعبي، وهنا قد يحدث الخلط؟ في الأندلسي كانت هنا جمعية ''الأندلسية'' الكبيرة، كان تضم محمد الفخارجي، الجزائري المسلم الوحيد، جمعية ''المطربية'' التي أسسها في ,1911 إدموند ناتان يافيل، كان معه الموسيقي الشيخ موزينو الذي كان بدوره تلميذ الشيخ محمد السفينجة· اليهود كانوا يتعلمون، كانوا أكثر تنظيما من العرب فعلا، كانت لهم أموال أكثر، قادرين على الطبع، على الحصول على قاعات للعرض، عكس الجزائريين· طيب، هل يمكن التعرّف على سلوك الحاج العنقى تجاه الجالية اليهودية، أقصد هل اقترب اليهود فنيا من الكاردينال بصفته مؤسس الشعبي؟ أؤكد، أولا، أن الحاج محمد العنقى هو عميد ما يسمى الآن بأغنية الشعبي، لم تربطه أية علاقة باليهود كمداح ولا كمطرب شعبي، علاقته مع تلك الأقلية كانت كأي علاقة بين فنان وجمهور، لم يحدث أن شارك معه يهوديا، في العزف أو غير ذلك· لكن المخرجة سافيناز تقول في فيلمها إن العنقى كان يعد من ضمن تلاميذته يهود؟ لا، بدليل أن أول تلاميذ العنقى، هي أسماء معروفة على غرار عمر العشاب وحسن السعيد، فالعنقى بدأ يدرس في المعهد البلدي منذ ,1955 وقبلها كان مكتفيا بالطرب، والكل يعرف أنه تلميذ الشيخ الناظور· لا أعرف من أين لهم بهذه المعلومات، تصيبني قشعريرة عندما أسمع هذه التخاريف، إذ يستحيل أن يكون في محيط الحاج العنقى يهودي، لأن الشعبي مجال خاص بالعرب المسلمين لا غير، بل ممنوع أن يجلس غير ذلك في تلك الحلقة، لأن اليهودي يمنعه دينه من المشاركة في جلسات المديح، لهذا أريد أن توضح المخرجة على أي أساس شارك اليهود في التأسيس للشعبي؟ عليها أن تعلم أن الجزائري الذي كان يعيش في القصبة في العشرينيات، لم يكن يملك شيئا أعز من دينه الإسلامي، وكان مدافعا ومفتخرا بانتمائه إلى الدين الإسلامي· بدليل أن أحد الشخصيات المستجوبة في الفيلم، يؤكد للمخرجة أنه لا يغني إلا للحب والمرأة ويستحيل أن يؤدي أغنية دينية؟ طبيعي أن يقول ذلك، لأن هو فعلا شعورهم تجاه الشعبي· من ناحية أخرى، أريد الإشارة إلى طابع الحوزي، القادم من تلمسان، وشارك فيه يهود، مثل رينات داود، أليس فيتوسي، وكل المعلمين اليهود كانوا يغنون الحوزي وأبدا لم يؤدوا الشعبي، لأن ذلك كان يتنافى مع هويتهم وديانتهم· في رأيك، ماذا نفهم من وجود أسماء فنية معروفة في الشعبي، على غرار عبد القادر شرشام وعبد المجيد مسكود، والهادي العنقى، وغيرهم من أحفاد وتلاميذ العنقى؟ أنا لا ألوم أحدا منهم، فأنا مثلهم فنان، أعرف الظرف الذي يعمل فيه الزملاء والإخوة، لكن عيب هؤلاء أنهم يفتقدون للبعد الثقافي والسياسي، ولا يقرأون خلفيات مثل هذه الالتزامات· أعتقد أن همّهم الوحيد كان اقتناص فرصة العمل خارج الجزائر، وتوفير بعض المال بالعملة الصعبة· أتصور أن هؤلاء لم يخبرهم أحدا بالأبعاد الخفية لتأسيس الفرقة، وأنهم وجدوا أنفسهم أمام أمر الواقع، فتعرفوا إلى العازفين اليهود، واشتغلوا معهم· من جهة أخرى، لا بد أن نقر أن اللقاءات بين الفنانين الجزائريين ونظرائهم اليهود، ليس فقط في الشعبي، بل في طبوع أخرى، ويحدث ذلك دون أن يعلم الرأي العام بذلك· سافيناز هي التي سعت إلى الجمع بين الفنانين الجزائريين واليهود بفرنسا؟ لا، أعتقد أنها فعلت ذلك من محض إرادتها، ثمة أطراف سعت إلى تحقيق ذلك، وهي جهات نافذة وقوية· قد لا ننتقد الأمر من الناحية الفنية، لأن الفن لا هوية له، لكن أن يحول الفعل الثقافي إلى وجهات سياسية، وتحريف للمعطيات التاريخية هو ما يزعج؟ أنا ألوم العقول التي تسعى إلى تنفيذ خطتها على حساب الفنان الجزائري· علينا أن نرد عليهم ونقول بأعلى صوت إن قصة الشعبي لم تكن يوما يهودية، بل دينية محضة· قد يقال إن سافيناز ومَن مِن ورائها لا يفرقون بين الشعبي كطبع قائم بذاته، وبين الحوزي الذي غنت له أصوات يهودية· أنا أعارض النوايا السياسية والثقافية الرامية إلى تحريف هويتنا الوطنية، ويحق لي أن أقرأ هذا العمل كتدخل في الشؤون الجزائرية· يجب أن نقول إن المخرجة اعتمدت على شهادة محمد فركيوي، كان دليلها طيلة الفيلم؟ فركيوي لم يكن يوما مؤسسا لفرقة ''الغوسطو''، هو عازف قيثار بسيط، احترمه كثيرا، لكن معلوماته تبقى محدودة في ميدان التاريخ الشعبي· ماذا تعرف عن هذه الأسماء: جوزيف حجاج، روني بيراز، مصطفى تهمي وموريس المديوني؟ أعرفهم كلهم· موريس المديوني هو الصديق الحميم لبلاوي الهواري· لاحظي بلاوي وما أدراك ما بلاوي الهواري، اسم من ذهب في سجل الفن الجزائري، رغم معرفته الجيدة لموريس، لم يجرؤس يوما على الالتقاء به، في عمل مشترك، ما عدا لقاءات محدودة باسم الصداقة لا غير· جوزيف حجاج اسمه الحقيقي جوزي ديسوزا، عازف أيضا، متزوج من تونسية، كان يعمل في الكابريهات·· عاشوا في وقت معين في الجزائر· تطرح معدة الوثائقي موضوعها من منطلق أن فرقة ''الغوسطو'' هي المركب الذي يعيد اليهود المنفيين إلى الجزائر، بعد خمسين عاما من الشتات، وأن الشعبي هي الموسيقى التي تجمع مجددا بين مسلمي ويهود القصبة؟ فعلا هي تواريخ لها دلالاتها القوية عندنا، خمسين عاما هو كناية للاستقلال، وحتى أول حفل برمج كان في ليلة الفاتح نوفمبر .2006 تصيبني هذه المعطيات بالذهول، لا يمكن أن نسكت عنها· ما يزيدني إصرارا على رفض أي دعوة من قبل هؤلاء، فقد أبلغوني دعوة، منذ أربعة أيام، لحضور عرض الفيلم ببروكسيل، ورفضتها· في تفسيرهم لتسمية ''الغوسطو'' يقول أعضاء الفرقة، إنهم استلهموا الاسم من عبارة كان الحاج العنقى يحبذ سماعها قبل الشروع في أحياء حفلته، أي يفضل سماع ''الله يعطيك الغوسطو'' بدل ''وفقك الله''؟ قد تكون كلمة رددها العنقى مرة، لكنها لم تكن يوما اللفظة المفضلة لديه· ''الغوسطو'' كلمة تداولتها الأوساط الفنية عبر القطر الجزائري، مختلطة مسلمين ويهود، ولم تكن حكرا على العاصمة وعميدها· فاللفظ عادة يستعمله المنتشون بالخمر أو المخدر، تعبيرا منهم على بلوغهم الراحة والارتخاء· مادامت الفرقة تضم أسماء معروفة، هل تعلم إن كانت عرضت الانضمام على شخصيات فنية أخرى؟ نعم على حد علمي، رفض الفنان عمر العشاب، المقيم بفرنسا، الانخراط في هذا المسعى· وقد أخبرني شخصيا، أنه يستحيل أن ينضم إلى فرقة تشوبها شكوك تتجاوز الهدف الفني·· هو واعي بما يدور في الكواليس· ما هي الطريقة المثلى للرد على مثل هذه الإنتاجات السمعية البصرية، خاصة إذا علمنا أن الشركة المكلفة بالتوزيع هي التي توزع أحدث الأعمال السينمائية المشاركة في مهرجانات الدولية؟ أحسن طريقة هي البحث، والتدوين والتسجيل، وأنا شخصيا أسعى منذ سنوات إلى جمع كل ما يتعلق بذاكرة أغنية الشعبي· صحيح، إنه عمل شخصي، يتم في فترات متقطعة، لكنه ضروري في نظري، سيأتي بنتائجه لاحقا مع مرور الوقت· في غياب بحوث جامعية ومجموعات تابعة لمراكز بحث، حتى المعهد العالي للموسيقى، لا يخدم المكتسبات الفنية الجزائرية، أجدني متفائلا في شق التراث اللامادي، الذي تعد الجزائر رائدة في الدفاع عنه دوليا، علينا أن نستغل الفرصة، ونستفيد من الإمكانات المالية اليونسكو، لتوثيق تراثنا اللامادي، بما فيه الشعبي· لهذا أقول إن ما يتحقق حاليا على الميدان، هو نتاج جهد أشخاص، بدعم من الدولة، خاصة بمناسبة تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية ,2007 نجحنا في تسجيل علب موسيقية كاملة لعمداء الفن الجزائري·