بعد مجزرة الكرة في بورسعيد، عمل عدد كبير جدا من المصريين على ''مقاطعة'' المدينة. قاطعوا بضائعها وتوقفوا عن السفر إليها وحاولوا ''معاقبتها'' بكل وسيلة توافرت لهم. في حالات الغضب لا يتأمل الإنسان كثيرا في قراره. معظم الجرائم ترتكب ''بدم بارد''. معاقبة بورسعيد كانت من النوع الأخير. جماهير تطلب الثأر من أشباح. وجماهير تقرر نوعية العقاب قبل أن تقرأ نص الحكم بل حتى قبل صدور قرار الاتهام. وأعتذر عن القول إن القرار الذي أصدرته لجنة التحقيق البرلمانية كان من النوع الذي تؤلف عليه المسرحيات. وشر البلية ما يضحك. فاللجنة تبحث عن مسؤول بين آلاف الناس الذين نزلوا إلى الملعب في هستيريا جماعية تحدث أحيانا في المجتمعات. الذي لا يحدث هو أن يتحول الهتاف إلى مقتلة. وأن تبدو مصر وكأنها مستعدة دائما للذهاب إلى الحرب بسبب ضربة جزاء أو غفلة حارس مرمى. وقد أساء جمال مبارك إلى مصر وإلى نفسه عندما اعتبر أن حضور المباراة ضد فريق الجزائر يزيد من حقوقه في وراثة رئاسة الجمهورية. دعونا لا نقلل من أهمية ''الشرف الرياضي'' عند الناس. زعماء أوروبا يحضرون دائما المباريات المهمة التي يخوضها فريقهم الوطني. لكن إذا خسر الفريق لا يقطعون العلاقات ولا يرسلون الناس في طائرات لكي يخوضوا معركة المشجعين خارج الملاعب، منتصرين أو مهزومين. يفهم المرء أن يقاطع الناس الجزائر، أما مقاطعة مدينة مصرية كانت ذات مرحلة رمزا وطنيا غاليا، فأمر غير مقبول في المجتمعات المدنية. هذا موقف عشائري يذكر بالعادات القديمة في الصعيد، عندما كانت قرية أو عشيرة تقاطع جارتها وتعاديها عشرات السنين، بسبب خطأ فردي. لا يخفى أننا هنا أمام جريمة جماعية وليس خطأ فرديا. لكن بورسعيد هي المكان، أو الساحة، وليست الفاعل. ولا هي حتى المحرض. فهي مدينة وليست ''جمهورا'' يصفق ويعلو حماسه إلى درجة أن بعضه تغلي وحشيته أيضا، حيث يرى في الجمهور الآخر عدوا يستحق القتل خنقا أو ركلا أو طعنا بالسكاكين والمخارز. جرت العادة أن يحمل المشجعون إلى الملاعب البالونات والزمامير ودواليب الهواء الملونة. وأتذكر أنه يوم فاز الدكتور بطرس بطرس غالي بالأمانة العامة للأمم المتحدة اتصل به الرئيس حسني مبارك يهنئه ويصف له مشاعر الفرح عند المصريين: ''تخيَّل! الناس فرحانة أكثر مما لو ربحت مصر كأس الكورة العالمية''.