.. يتعلق الأمر باستراتيجية الترجمة في حد ذاتها، بملابساتها وبمنحاها الانتقائي في اختيار نوعية التواصل: المرجع والمضمون والرؤية والموقف، وقد يتعدى الأمر ليشمل الجماليات. أي ما لا يتعارض وجماليات نص الوصول كقيمة مرجعية تؤطر القيم الأخرى وتنمطها وفق حاجاتها.. تتعامل اللغة الثالثة، في حال النصوص الأدبية على اختلافها، مع عينات مخصوصة يفترض أن تقيم جسورا بين الحالات الثقافية، بغض النظر عن طبيعتها، ذاك أنّ كل حالة ثقافية، هي في نهاية الأمر، منتوج سلسلة من التراكمات المعرفية المركبة التي تستدعي الإحاطة بتشكلاتها. ومهما كانت هذه الحالات وأصولها وأبعادها، الاجتماعية والنفسية والعقيدية والفلسفية والخرافية والأسطورية، فإنها تحيل على وعي ما، وعلى ممارسات وقناعات وعادات تشكل مجتمعة هوية مختلفة، لكنها قائمة من حيث أنها كذلك، ولو كانت بدائية. وإذا كان الأمر لا ينطبق تماما على الكتب العلمية، فإن ترجمة بعض الحقول الأخرى، وتحديدا ما تعلق بالرواية والقصة والمسرحية والقصيدة، أمر غاية في الإيهام، وقد تلعب السياقات غير الأدبية دورا مركزيا في فرض الخيارات، سواء بقبول الخصوصية أو برفضها أو طمسها، ومن ثم الاكتفاء، عبر لغة ثانية أو ثالثة، بنقل المتشابه أو المتطابق من الإبداعات الغيرية لتحصين الذات من آثار المختلف، ولو كان إلهيا. ما يعني أن فكرة التجسير، في جوهرها، ليست حيادية دائما، وإذ تسعى بعض الترجمات إلى إقامة صلة مع الثقافات الأخرى فإنها تنطلق، رغما عنها، وفي أحيان كثيرة، من مواقع مشبوهة، ومن خلفيات معرفية وأيديولوجية تعيد إنتاج الأفكار ذاتها، أو ما شابه المتواتر في اللغة الهدف .وهكذا تتعدد الترجمة، في جزء منها، تأكيدا وتزكية لمحمولات اللغة التي ننقل إليها، لهويتها الخاصة. يتعلق الأمر ها هنا باستراتيجية الترجمة في حد ذاتها، بملابساتها وبمنحاها الانتقائي في اختيار نوعية التواصل :المرجع والمضمون والرؤية والموقف، وقد يتعدى الأمر ليشمل الجماليات .أي ما لا يتعارض وجماليات نص الوصول كقيمة مرجعية تؤطر القيم الأخرى وتنمطها وفق حاجاتها. وعادة ما تسعى هذه القيمة المرجعية الواحدية إلى سنّ منطقها وتدويله ليكون قاعدة معيارية، تلقي بظلالها على الترجمة وجوانبها التفاضلية .ما يؤدي حتما إلى تجسير نموذجي يكرّس المتشابه كنقطة تلاقي لغتين مختلفتين، ليس إلاّ .وأما معرفة الكتابة، فتتراجع إلى درجة أدنى من حيث أنها لا تتخذ معيارا للجودة، لما هو قابل للترجمة، أو يستحق النقل إلى المركزيات اللغوية الأخرى التي تكتفي بالتركيز على ما يتآلف ومقاصدها. والحال أن مصادرة المختلف والأصيل، تأسيسا على اللغة في حد ذاتها، أو على المواقف، هو السمة الغالبة التي تميز جلّ الترجمات المعاصرة. لقد تم نقل كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي، إلى مختلف اللغات، رغم أنه ليس ذا قيمة أدبية كبيرة، بشهادة نقاد مكرّسين، في حين تم إهمال مغامرات الله ومغامرات المسيح الصغير لميشال كافانا .أما الأول، فينتقد القرآن، في حين يقدم الثاني الكتاب المقدس بشكل ساخر للغاية، إلا أنه طمس في لغته، دون أن يستطيع إقامة جسر بينه وبين الألسن الأخرى. يحيل هذا التعامل على نوع من التجسير الذي يراد تكريسه، وهو، كما يبدو، قائم على منوالية منظمة، مخطط لها قبلا .مع أن القارئ بحاجة إلى تنويعات لإقامة علاقة مع الآخر، دون أية غربلة تتكئ على ذاتية مفرطة. الملاحظة نفسها تنسحب على الأعمال العربية المترجمة إلى اللغات الأخرى .إن أغلب ما ترجم إلى الروسية، على سبيل التمثيل، كان ذا ميولات يسارية مناهضة للرأسمالية، وللإمبريالية في بعض الاصطلاحات التي تم تداولها في السبعينيات من القرن الماضي .وكان المقصد ''المسكوت عنه'' من وراء نقل هذه العناوين، على قلّتها، لا يتعدّى البعد الأيديولوجي الذي يتوافق والخطاب السياسي للسلطة آنذاك. ولئن كانت بعض العناوين مهمة ومثيرة في جانبها الفني، فإن فكرة التجسير ظلت مركزة على المتون التي لا تشذ عن المعياري الغيري، لذا ترجمت أعمال أقل قيمة فنية من أعمال أخرى لم تلتزم بالأيديولوجيا المعيارية، مع أنها كانت راقية. التجربة ذاتها ستتكرر بعد سنتين، خاصة مع الآداب الجديدة .وقد أثبتت الإحصائيات أن جل ما عرف طريقه إلى اللغات الأخرى كان متوافقا مع موضوعات هذه اللغات الأخرى، كما أشارت إلى ذلك المترجمة الإيطالية يولندا غواردي في إحدى مداخلاتها. أما العناوين التي حظيت بعناية فائقة، ونقلت إلى الفرنسية والإيطالية والإنجليزية ولغات أخرى، فكان أغلبها متوافقا مع القواعد السرية لفلسفة التجسير، وأهمها :الكتابة ضد الذات، أو التفكير برؤوس الآخرين، لذا لا نتفاجأ إن لاحظنا أن الترجمات الجديدة تخلّت عن كتاب كانوا مراكز في عهد اليسار، أو على كتاب آخرين التزموا مبدأ الحياد، أو كتبوا عن الذات. إن قراءة عابرة للعناوين المترجمة لتحيلنا مباشرة على انتقائية أخرى نمت مع المتغيرات الدولية، وخاصة مع المد الإسلامي في حال الأدب العربي .لذا تم التركيز على الأعمال الأدبية التي لها موقف من الدين والقومية والإسلام السياسي، ومن بعض التقاليد التي تتعارض مع سياسة المؤسسات والناشرين والمراكز الثقافية الأجنبية. ويجب الإقرار بأن هذه الهيئات أفلحت، إلى حد ما، في فرض وصايتها على الأدب المحلي، ومن ثم توجيهه الوجهة التي تبتغيها .من هنا ظهر أدب على المقاس، تحت الطلب، من حيث التوجه والرؤية والموقف والموضوعات المطروقة، وهي موضوعات تخدم ذائقة الآخر ونمط حياته ورؤاه، لا غير. بل إن بعض الكتّاب، وهم كثيرون، في الوطن العربي، وفي الدول المغاربية، أصبحوا يؤلفون من أجل الترجمة، وهم يعون، تمام الوعي، أن الخروج عن المنوالية الأورو-أمريكية لا يؤهلهم إلى ذلك . تنضاف إلى معضلة مركزة التجسير، التي يتجاهلها المترجمون، معضلة اللوبيهات الأدبية التي تسوّق منتوجها عن طريق النفوذ والعلاقات .ويمكن أن نضيف إلى ذلك، في حالة العالم الثالث، تغييب سلطة الفن بحضور سلطة المال، وهي سلطة بإمكانها تقويض الهالات الأدبية والحلول محلّها، أو تمثيلها دوليا، مع ما ينجرّ عن تصدير مؤلفات لا تعكس الواقع الأدبي الحقيقي، لتصبح، مع الوقت، مرجعا قاعديا على حساب مؤلفات أكثر نضجا وأكثر معرفة بقواعد الكتابة، وأكثر تجربة كذلك. وإذا كانت الترجمة تصبو إلى خلق جسور بين الأمم، فإن عليها أن تتحلّى بأخلاق الترجمة، بدءا بمراجعة طبيعة الخيارات الانتقائية التي قد لا تنقل سوى جزء مشوّه من الإبداع الإنساني في تنوعه، وبذلك لا يتحقق مبدأ قبول الغريب بسبب التمركز العرقي. ثمّة نقطة أخرى لا يمكن تجاهلها، وتتمثّل في اهتمام بعض الدول (الحالة التركية مثلا) في ترجمة الآداب القديمة، أو ما أنتج قبل عقود، وفي حال الاهتمام بالجديد، فإنها تركز على الآداب المشرقية، أو على بعض الأسماء المكرّسة دون الأخرى .أما حظ المنتوج المغاربي، فضئيل بالنظر إلى ضآلة الاحتكاك والتوزيع وانعدام الدعاية، ما يؤكد الصبغة الجزئية لأي تجسير، على الأقل في الوقت الراهن .