إتفق المشاركون في ندوة اليوم الثالث لملتقى الأمير عبد القادر بتلمسان، على أن الأمير لم يكف عن تحذير حكام الشام بأطماع الغرب في المنطقة. وكان يحثهم على درء الفتنة. وأكدت الباحثة أماني العاقل من سوريا، أن الأمير لم يحم مسيح دمشق لوحده، بل استعان بشبكة علماء وأعيان سوريين، ناهيك عن مساعدات مالية معتبرة من قنصل فرنسا هناك. شرح الدكتور سعيد مصطفى لبيب عبد الغني، الخلفية الفكرية والدينية التي جعلت عبد القادر، يدافع عن حرية الأفراد واحترام الاختلاف، في محاضرة بعنوان ''الهوية في الاختلاف''، قارب فيها رؤية في المشترك الإنساني بين ابن عربي والأمير عبد القادر. وأكد أستاذ جامعة القاهرة، أنه في زمن تروّج فيه لصراع الحضارات وتبارك القوى الكبرى لتفكيك الثوابت وتدافع عن إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد أيضا، وتوظيف المعتقدات في سوق الأهواء: ''يصبح لزاما على الإنسانية الاستماع إلى صوت ابن عربي وعبد القادر بن محي الدين، وهما يستلهمان أنبل ما في الدعوات الإسلامية على وحدة المصير، ومعارضة تدمير الإنسانية''. فابن عربي الذي كان ينظر إلى الدين نظرة داخلية، ويتجاوز المظهر الخارجي، يؤكد على إبراز المشترك بين الإنسانية، ويقول بأن الإنصاف يقتضي الإقرار بجميع صور الاعتقاد. أماني العاقل، من جامعة حلب، قالت إن الأمير لم ينقذ 5000 نصراني لوحده، بل ساعده أئمة وسوريين آخرين، فتحوا بيوتهم للمسيحيين حماية لهم من الفتنة. وأن عبد القادر استعان بشبكة علاقات نسجها في دمشق، ويتعلق الأمر بعدد كبير من الجزائريين المهاجرين، واشترى سبعة بيوت في حي عمارة، واختاره للاندماج في المجتمع الدمشقي، وفي هذا الحي كان هناك شبكة علماء محليين درسوا على الطريقة العثمانية، فتصادق الأمير بهؤلاء، الذين ينتمون إلى طرق متعددة، منها من كان ضد تواجد المسيح في سوريا مثل الشيخ خالد، إلا أنه نجح في تجاوز الخلافات الجوهرية. وتكشف المتحدثة أن: ''علاقة الأمير بقنصل فرنسا بسوريا كانت مهمة لأنه ساعده على توفير أموال عملية الحماية. ناهيك عن موارده المالية المعتبرة التي مكنته من المساهمة في الحياة التجارية والاقتصادية والعقارية لدمشق. حماية الأمير للمسيح سوريا، ساعدهم فيما بعد على الاستفادة من إعفاءات ضريبية، كانت سبب تراكم الثروة في القرن ال .19 تطرق الأستاذ سمير سليمان، من الجامعة اللبنانية، إلى افرادة الأمير عبد القادر وقيم النبالة بين خبرة الحرية وقيود المنفيب، وقال إن الأمير عبد القادر تألق نجمه كمرشح لإمارة سوريا، بعد أن دافع عن المسيحيين هناك، وربما لأكثر من ذلك، إلا أن الأمير عزف عن هذه الغاية بعد مشاهد المذابح وانقسامات العرب: ''في 10 جوان 1860 كتب إلى صحيفة ''أغل دي باري''، يشكو الوضع الحاضر والسلطنات المسيحية والإسلامية، وكانت الفترة هي حرب بين الدروز والمروانة. وتمنى أن تكف الحرب، كتب يقول ''إني أبكي انتحار الإسلام إنا لله وإنا إليه راجعون''. بعد هذه الرسالة ''الاستسلامية''، يقول المتدخل، أعلن الأمير اعتزال السياسة في الشام، وطبق ما قاله في الصحيفة، وقال عن ترشيحه حاكما لسوريا: التطمئن تركيا أنني أنهيت مسيرتي السياسية ولا أطمح إلى سلطان على بشر أو مجد في الدنيا... إني أطمح إلى هناء عائلي والصلاة والسلام''. أشار سليمان إلى الصداقة التي جمعت القائد الماروني يوسف بن كرم بالأمير، كلاهما كانا صاحبا مشروع جميل، إلا أن بن كرم لم يستطع هو أيضا مجابهة التفرقة، اواستمرت العلاقة إلى وفاة الأمير في ,1883 التنسيق بينهما كان في الرسائل، وهو ما يؤكد أن ابن محي الدين لم ينسحب فعليا من السياسة، وإنما غير طريقة الممارسة، وتحوّل الجهاد عنده إلى سرية''. ظل الأمير مرتبطا بالمسألة اللبنانية، ومهتما بما يحدث من تفرقة بين القبائل والمذاهب، وحاول أن يوحد بينهما، وكانت طريقته امثالية تصلح لما يحدث الآن في لبنان القرن ال .''21 وقد ساعده في ذلك جوهرية إيمانه الديني، مقاومته للاحتلال الأجنبي تكامل الجهادين الأكبر والأصغر، صدقية القائد التاريخي، حسب المصدر ذاته. محمد إقبال أحمد فرحات، من جامعة عجمان، سلط هو الآخر ادور الأمير في واد فتنة الجبلب، وكيف تعامل مع الصراع بين الدروز والموارنة، هاتين الطائفتين كانتا على ارتباط وثيق ببريطانيا أو فرنسا، ما فتح المجال لهما للتدخل في شؤون الدولة العثمانية. وفي ظل ذلك الظرف الصعب، قام الأمير بحماية نصارى لبنان في .1860 إلا أن المحاضر يرى أن معظم الكتب التي تناولت المواجهة بتفاصيلها الواقعية من الناحية الدينية، ولم يتعرّض أحد إلى الآن أبعادها الاقتصادية والسياسية: ''إلا بصورة عابرة تفتقد للبحث العلمي. مع أن ما تعيشه العراق لبنان وسوريا تدفع إلى التفكير بمنهج الأمير في واد الفتنة''. رشيد بوجدرة: الأمير عبد القادر سبق بروست وفولكنر في الحداثة قال الروائي رشيد بوجدرة، إن الأمير عبد القادر كان سباقا إلى كتابة النثر الحداثي. واستدل صاحب المؤلف في كلامه بكتاب ''المواقف'' الذي يعد -حسبه- نصا مليئا بالدروس المميزة في البناء الأدبي والمعرفي. إستهل بوجدرة قراءة أبيات من إحدى القصائد المتضمنة في كتاب''المواقف''، وجاء في بعضها: ''أنا الحب والمحبوب والحب إجمالا، أنا العاشق والمعشوق سرا وإعلانا ...بإلى آخر القصيدة التي تدل -حسب بوجدرة- على حداثة شعر صاحبها الأنه وظف تقنية القصيدة العروض.. كأن يقول ''وفي بعدنا شوق يقطع مهجتي''. حداثة المواقف ليست حداثة اضمنيةب، يشرح صاحب ''الحلزون العنيد''، بل حداثة من حيث البنية التي فيها التحديث والتجديد: افقد طور الأمير مواضيع العشق والقلق والوجدان التي كانت غائبة على الساحة العربية باستثناء الحلاج. ونجد في المواقف أسلوبا نثريا في المغرب العربي، يطغى عليه طابع الدقة، الحدة اللغوية والانضباط المنهجيب يواصل شارحا. وبتعبير آخر تبلور نثر المقاوم المتصوف، من خلال مفاهيم خلخل بها ما كان جاهزا في عصره.قراءة بوجدرة ل ''المواقف'' جعله يقول إن: ''الأمير رجل موسوعي المعرفة خاصة عند سجنه في فرنسا.. حيث تعرف على اختراعات الآخر وعلمانية الآخر ... أخذ منها ما أراد وترك ما لم يكن بحاجة إليه''. وتوصل المحاضر إلى أن حداثة الأسلوب في الكتاب المشار إليه ''محشو بدقائق اللغة وخبيات الكلام، وخلفيات الحروف، كما فعل من قبله ابن عربي. وكان الأمير مطلعا على التحليل النفساني قبل فرويد''، معقبا: ''نجد عنده من خلال الكتاب تشريبات المعاني والمفاهيم، وهو حسبنا فرضته عليه قواعد الفلسفة الإسلامية والغربية بعد سقوطه أسيرا في فرنسا. لا يرى أي تناقض بين منطق الفيلسوف ومنطق الأديب''. ففي ''المواقف'' كان ابن محي الدين، يستعمل الاطرادات، الاستعارات المجازية، يترك المجال مغلقا أمام الشارحين والمفسرين. ويعترف المتحدث: ''كروائي أكتب الرواية الحديثة، كنت أقول في نفسي كيف للأمير أن يكتب رواية حديثة بمعنى بروست وفولكنر. فأسلوب الأمير ومضمونه، كان نثرا متبلورا زجاجيا وشفافيا لا مبالغة فيه ولا مزايدة''. ويستطرد قائلا: ''يبرز في النص إرادته الواعية واللاوعي في تدبير كل المفاهيم المعتادة والكسولة، لأن الرجل كان مجتهدا. كان يتمتع ببصيرة كانت تنير القرن ال .''19