منذ أن رأت النور على إثر تداعي نظام الحزب الوحيد، عاشت الصحافة الجزائرية الوليدة 3 لحظات مفصلية وذلك منذ 20 سنة، اللحظة الأولى، هي لحظة الرومانسية الشعبوية ولقد امتدت منذ العام 90 إلى غاية نهاية المنتصف الأول من التسعينيات، وهي لحظة برغم تناقضاتها ونقص حرفيتها وعدم اكتمال خبرتها اتصفت بالإندفاع والميل نحو المغامرة الفكرية والإعلامية وبرفع التحدي في تجاوز العقلية الأحادية والإنفتاح على زمن جديد ومختلف.. لكن أول ما كان امتحانها عسيرا عندما اختبرت الصحافة الفنية الناشئة لما دخلت السلطة والإسلاميون الراديكاليون في مواجهة مفتوحة، معلنة وصلت حد استعمال السلاح، فانذوت شعلة الشعبوية وسيطر العنف المزدوج بل والمتعدد على العقول والقلوب والأقلام، وحدث الشرخ في قلب المشهد الإعلامي والسياسي الناشئين بين من كان يطلق عليهم نعت الإستئصاليين ومن كانوا يوصفون بالمصالحين، أو أنصار المصالحة أي الذين أعلنوا عن معارضتهم لإيقاف المسار الإنتخابي وخطر جبهة الإنقاذ وفرض حالة الطوارئ.. وتعرضت معظم العناوين المناصرة للإتجاه الأخير إلى الحظر مثل، الجزائر اليوم، لاناسيون، الحدث، الصح آفة، العالم السياسي، البلاغ، النور وغيرها.. أما اللحظة الثانية فيمكن وصفها بلحظة صحافة المقاولة السياسية، بحيث انتقلت الصحافة الموالية للنظام في معركته ضد الإسلاميين الراديكاليين لكن أيضا ضد جماعات الإسلام المسلح إلى فترة أخرى، التقت فيها الإيديولوجيا السياسية بالمال وبالتالي بدوائر المصالح.. وهذا ما جعل الصحافة في هذه الفترة تختار مواقعها انطلاقا من إملاءات المصالح إلى جانب طرف من الأطراف المتصارعة داخل النظام، وقد اتسعت هذه الفترة إلى لحظة ما بعد مجيئ بوتفليقة إلى الحكم خلال عهدتيه الأوليتين، لتبدأ لحظة ثالثة، وهي ما يمكن تسميتها بلحظة المقاولة الرعاعية، وهي لحظة خطيرة، لأنها فتحت الباب على مصراعيه أمام الوصوليين والإنتهازيين من المتسلقين ومن أصحاب الأموال المشبوهة والذين رأوا في الصحافة بطاقة زيارة، أو جواز مرور أو وسيلة للإبتزاز وتصفية الحسابات وفي الوقت ذاته قناة لنشر الرذيلة السياسية والشعوذة، وتعميم ثقافة البلطجة وذلك غير منفصل عما أصبح يعرفه المجتمع السياسي من انحدار في المستوى وافتقار إلى القيم والمثل ومن انحطاط مريع يعكس الأزمة، أزمة المجتمع والسلطة، وأزمة الأخلاق والسياسة في أعنف صورها وحالاتها.. وفي ظل لحظة المقاولة الرعاعية تمكن المفسدون من إسكات الصوت الحر للصحافة ومن شراء الذمم، ومن تحويل عدد من العناوين إلى حريم السلطان الجديد، سواء كان هذا السلطان الجديد بيده سيف الإعلانات أو شكارة المال القذر أو ذلك النفوذ الذي تمنحه سلطة إفتح يا سمسم... كما أن مستوى صحافة لحظة المقاولة الرعاعية في معظم الأحيان اتصف بالإنحدار والضعف وقصر النظر وسطحية التحليل، وتعتبر الأعمدة التي حررها عدد من كتاب وكاتبات الرأي في قضية فضيحة الطريق السيار، التي فجرتها منذ سنة جريدة الوطن، وغدت قسمها الثاني الجزائر نيوز خلال هذه الأسابيع الأخيرة مثالا حيا وساطعا على ذلك. فبدل أن يذهب أصحاب الأعمدة إلى قلب القضية، قضية الفساد، راحوا يرقصون رقصة البهلوان لأن ينحازوا ولو بطريقة سلبية وخفية إلى جانب المفسدين أو الأسياد الجدد مختلقين الأعذار والتبريرات باعتبار ما طرح على الرأي العام يندرج في معركة أجنحة... لكن برغم هذا البؤس الذي لحق بتوجهات الصحافة الراهنة، لم يمنع من وجود صحفيين تحركوا باتجاه عكسي لتوجه صحافة المقاولين الرعاع، وذلك دفاعا عن شرفهم، وشرف الكلمة الحرة، وشرف الضمير الحي، وشرف المهنة في نهاية المطاف حتى لا يختطفها الدجالون الجدد من أصحاب النفوذ والمال والكلام..