بيروت بيروتات.. مرسومة بألف ريشة وألف لون وألف صمغ.. وها هي بيروت سمير قصير مزدانة بشرائط المحبة والفكر والحكمة.. تجيء بيروت سمير قصير مفعمة، شهية وشهوانية، تتطاير نزقا، تغفو سادرة في يم نبيذها الزحلاوي وتنهض متلكئة مشترئبة للسياسة واصطراعاتها، للدم ورأسملته التي لا تنفذ، للإقطاعيات والطوائف والمتناحرين.. لبيروت التي ليلها كنهارها لا يضل عنها زائغ أو هالك.. تاريخ بيروت، هذه المدينة التي يكتبها سمير كحبتي الروح.. بؤبؤ القلب وبؤبؤ العين، حبيبة الشرائع وبلاد العرب الأليفة.. من الأمكنة ما يوقظ المشاعر.. ومنها سهل بيروت الضيق الممتد على طول الساحل ويكاد يلتصق بخاصرة الجبل، تخترقه الأنهار التي خطت مجاريها المتناسقة يد الهية مجهولة، سهل مرصع بالخلجان الصغيرة المفروشة بالصخور، الحصى ورواسب الرمل، سهل تزينه مرافئ لم تفارقها يد الإنسان.. إنها الأسطورة، من ساحل بيبلوس ولدت، من رحم خراقة قديمة.. تأتي وعورة بيروت من جغرافيا تتمدد، تعلو، تهبط، تنعرج، تنسفح مياها وأنهار ثم هي تنسفح دما وأغنيات، عذوبات وألق، أكاذيب وطنية جميلة وفيروزات شطآن.. بها منحدر غربي، ساحل شمالي وأكمة تقع على أربعة كيلو مترات إضافية البالغ ارتفاعها ألف متر ومطلها هو ماغوراس، أي نهر بيروت، وغربا تلة المصيطبة الأكثر اتساعا، تغوص عموديا في البحر فتتشكل الروشة، روشة بيروت المزدهرة بالناظرين والحالمين والعشاق، ثم هو الإنحدار وخفيفا قبالة عين المريسة... بين ثنايا سرد جغرافي ماثل، وشيك، عاصف، يكتب سمير بيروته التي، المحبوبة كعذراء الإله، المجبولة على الخضرة والإبداع والرفاه، كأنها مسروقة أثرية، مقطوعة من مقطوعات التاريخ، خطأ تاريخي جمالي وآخر جغرافي تضاريسي، سهلي وبحري وجبلي.. كل شيء يتآزر هنا، مانحا بيروت الرفعة والسحر، الطلة والبهاء، الرؤى البعيدة وغواية المسافات، لكن هذا العزف الفردوسي المقدس ستأكله الحداثة والتحديثات، التقلص المنهجي للرقعة الخضراء، وباء الإسمنت الذي سيقطع دابرا من جمالها الذي لا يبلى بغارات الغزاة والمحتربين وحاملي الأذرع والشراع والقرابين.. سلام لبيروت التي يبكيها سمير، مصلوبا عند أقدامها المقدسة مغسولا بمياهها الطهرى، مياه الأوزاعي، مياه الليطاني، مياه نهر الكلب ومياه صنين.. جزيرة سقطت من السماء فاختارها الصيارفة والمهووسين بالشنق على الهوية وأعضاء نادي القتل موئلا لذكورتهم الفائضة عن الحاجة وبسالتهم المدمرة، هنا حيث غادرتها غابات الصنوبر وأشجار الزيتون والموز والسّرو والجميز، مثلث فسيفسائي مفصوم إلى جبل، إلى سهل وبحر، هو اليوم ينزرع بالمباني والشواهد العمرانية والزجاج منتحبا بيروت التي كانت، بيروت القرن الثامن عشر والتاسع عشر، المغناة وديعة أليفة، مهربة من رخام الكلمات وطنين الداخل، طنين نونوس البانوليسي، يومها يوم القرن الخامس بعد الميلاد.. ( رب مدينة تدعى بيرويه، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحب، واقفة على البحر فيها جزر جميلة وأشجار ظليلة، ليست حدّ برزخ ضيق دقيق، بل إنها تتمدّد إلى الجهة الشرقية الحارقة عند قدمي جبال لبنان السورية المكسوة بالغابات، بيرويه أصل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، الرؤيا الأولى، شقيقة الدهر، مواكبة الزمن، عرش هرمس، حمى العدالة، مدينة المشرعين، دار أفروزينيا، منزل (أفروديت) بافوس، بيت الهوى، نجمة بلاد لبنان). وعلى وتيرة أخرى غير غنائية وغير شاعرية تحتجب بيروت بوصفها “مدينة التنظيمات" خلف المباني الهائلة ووثاقة العمرانات المشيّدة، الإكتظاظ في الساكنة، التعالي في البنيان، المشاوفة والتعالم والمنطق الإستهلاكوي، الاستخفاف بالحس المدني وغيبة المفهوم الطليعي البيئوي ومحبة الأشجار، الغابات، الوديان، الأنهار.. يلتفت سمير إلى الفكرة الأساس حول المدينة التي تتوارى، وتتحجب وتتجلبب وتنمحي فلا تصير جميلة إلا على مأخذ الأجانب الزوّار، تعتاش من انطباعات الفوتوغرافيين، ومن أطياف بطاقاتها البريدية كما من أمثلة صورتها الخارجية واقتدار تسويقها من لدن خدام الوكالات السياحية ومبتاعي الأحلام والفنتازمات، إنها ليست جميلة بل إن عيون الروح هي من جعلتها كذلك، إن حاضرتها اتسعت وعقلها ضاق وعبارتها الشعرية صارت عبارة خليجية، رطانة وفقط، صارت منذ السبعينيات مجنونة، نشوة البرّاني الطارئ عليها المواسم والأعياد هو ما يؤثثها ويبقي على طرفة عين جمالها الخلقي المتزاوج في الشقرة والسمرة.. بيروت نص في الحنين، تذكار البيت القديم الخاوي على عرشه إلا من إطارات صور وإلماحات قصص العابرين وكتبة أدب الرحلة، ولأنها كذلك في جغرافيتها المسرودة بسلاسة، في تمرحلات مسارها، في عصريها الكلاسيكي الذهبي والحداثي الإداري التنظيمي استبقت حنينا خافتا مكتوبا طباعة ومكتوبا في الخاطرات والبال، في الأذهان ولواعج والوجدان.. ولذلك أيضا ينبري الناس للإهتمام بها، الإنهمام بها، الإنصراف إلى التفكير فيها ومشاغلة النفس عن هواها الدامي، لأهلها المقيمين، للمقيمين فيها قلبا لا جسدا، للمتوقفين عند محطات استجمامها، لطالبي قربها ومصاهراتها، مخافة وتوجسا من ساجل بيبلسوس حتى لا تذروه رياح الغضب الرباني، ومن الروشة وهولها العظيم حتى لا يزداد المنتحرون من فوقها ومن تحتها وعلى رأس بيروت المسنّن، فلا يكون الرأس هو الحافر والقدم ومؤخر الصداق على خاتمتها المأساوية. حسب سمير يخشى الناس في بيروت، ويخشى الناس على بيروت ويخشى الناس من بيروت، ملتاعين بالحنين، منجرفين إلى مسقط حب مفترض، أو انتصار على الحياة كامن في مطلق من المطلقات، أو صدفة اللقاء التي قد لا تكون أبدا أبدا وهي بيت الهوى ونجمة الكتب وساحرة البطاقة وسؤدد المقاومات.. أرأيت ما يحدث، أرأيت ما حدث في بيروت البارحة، هل تابعت، هل أطللت، هل رأيت الجمر والرماد، اصطحاب الطوائفيات البغيضة ومتاريس الرمل والسلاح والمال.. ما بين 1975 إلى 1990، دخل العنف إلى بيت الهوى اللبناني فما خرج منهيا الأسطورة على التفكيك والقراءة والتأويل، صارت نقاشا، صارت فلسفة، لعبة جيوبوليتكية ومنازلات كبار، كازينو عقائدي ومقامرة دينية مذهبية، مال سياسي غربي، نفطي خليجي وآخر من كل مكان أليست هي المصرف الحر والفيدرالية المتوهمة والوطن الصعب والتسويات العصّية، في النهاية وبالنهاية... حسب سمير وهو يرصد التحولات والمآلات التي انداعت إليها غير آبهة إلا بحرصها المستميت على العيش والإلمام بفنون البقاء وما عنى ذلك في هذه الفترة - العصيبة - إلا السلاح والرضا بحروب المحاور والجلوس على طاولات الأكابر من صناع التعاسة والموت والديناميت.. فرضت المدينة موقعها تاليا لا بالميثيولوجيات التي اشتغل على منوالها شارل مالك وميشال جحا وسعيد عقل بل بالفرد نفسه الذي رجع بعدئذ يتعاطى مع بيروته كوظيفة في سفارة أجنبية، فينجح في تدبير مأكله، لقط عيشه وتلزيم طرقاته وشفط دهون نسائه الذاهبات كل مساء إلى أوكار الريبة والجوسسة وبيع الوطن على سفرة حضرة السفير الأميركي أو الفرنسي أو البريطاني أو الإيراني أو السعودي أو السوري، صار الوطن خطيئة الخطيئات، الهوية مجتزأة، الفكر مبغى، والمال سحتا حراما مشفوعا لكل أهالي بيروت يأتي من كل الجهات ويصل إلى الخادمة السريلانكية وإلى أحذية الروسيات والأوكرانيات، تاريخ بيروت، تاريخ مدينة شرقغربية، تترنج سكرى، جذلى نشوانة، تغرق من المياه المقدسة كيما تتطهر ثم تعود منجرفة إلى انحرافها المرغوب رغبة الغانيات الشغوفات بتسمين ما يجب وتنحيف ما يجب.. إن سميرا يعلق، يسرد عليها، على ما بها من نثر وشعر، على ما أنجبته سينما العالم وتلفزيون الغرب والشرق من توليفات وتأريخات، إن سميرا يكتبها كثوري أنيق أناقة الطليان، ينصت إلى دقات قلبها ويطرقها بالليل رغم أن ليلها كنهارها دائما يضل عنها المهتدي بالله والملحد، فهو يقول.. في مصنّفه الضخم عنها والذي يفوت ويربو عن الخمسمائة صفحة.. «في مخيلة العصر الذهبي الضائع، تغلف اندفاعات الحنين بيروت، وتقع الذروة حتما، عشية تسلسل العنف المتفجر الممتد من ربيع 1975 إلى خريف 1990، الذي أوشك أن يدمر المدينة والبلاد، بيد أنها فعلت ديناميتها، تحركت أكثر من دمشق والقاهرة لم تترك لأي من مستقطبيها الدوليين والإقليميين من أن يحتلسوا الضوء والإبهار منها". بيروت الساحة المصرفية، المدينة الجامعية، عاصمة الصحافة والمنشورات العربية مركز الاستشفاء، مرفأ الترانزيت، عقدة المواصلات الجوية، السوق المفتوحة لكل الصفقات التجارية والمصرفية من أسخفها إلى أكثرها شبهة.. وهي هكذا متواصلة التعريف، متعددة المفاهيم، معقدة الأدوار.. بيروت هي هويات، وليس لها هوية واحدة، ولا يصمد أحدهم على هوية واحدة، فعندهم هؤلاء سكان المدينة الهوية هي بقاء والبقاء هو ثبات والمدينة لا تثبت ولا تستقر على مقام، ولذلك يقاتلون في الحياة الموت حتى يبقوا تماما أحياء يرزقون إلى أبد الأبدين كما كان يحب أن يقول رسول بيروت ومنشدها جبران تويني... a_maouchi@live. Com