السيدة منصوري تترأس أشغال الدورة ال 38 لاجتماع لجنة نقاط الاتصال الوطنية للآلية على المستوى الأفريقي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    العلاقات الجزائرية الصومالية "متينة وأخوية"    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ..لا دفع لرسم المرور بالطريق السيار    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحمة النبوية بالعصاة
نشر في الجزائر نيوز يوم 20 - 02 - 2013

من نعم الله علينا وعلى البشرية بأسرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بُعِث إلا لتحقيق ونشر الرحمة بين الناس جميعا، كما قال الله تعالى : “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107)، وقال تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" (التوبة: 128)، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أنا نبي الرحمة) رواه مسلم. فمن سمات الكمال التي تحلّى بها النبي صلى الله عليه وسلم - خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير، تلكم الرحمة التي صارت له سجيّة، فشملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وإذا كان الناس عامة بحاجة إلى الرحمة والرعاية، فإن الذي زل ووقع في المعصية بحاجة خاصة أن نأخذ بيده لا أن نتركه واقعا، أو نهيل عليه التراب فنكون عونا للشيطان عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ برجل قد شرب الخمر، فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده، والضارب بثوبه، والضارب بنعله، ثم قال: بكتوه، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله؟! ما خشيت الله؟! وما استحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟!، فقال بعض القوم: أخزاك الله! قال: لا تقولوا هكذا! لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) رواه أبو داود. وسيرة النبي صلى الله عل يه وسلم وأحاديثه عامرة برحمته مع العصاة، تلكم الرحمة التي لا تضيق بضعفهم وتقصيرهم، فإنهم بشر من بني آدم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي. الأمل والرجاء: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع العاصي مهما ارتكب من ذنوب أن نفتح له أبواب الأمل والرجاء والطمع في رحمة الله وعفوه، فعن عبدالرحمن بن جبير - رضي الله عنه - عن أبي الطويل: شطبٍ الممدود قال: (إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها، ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة (صغيرة أو كبيرة) إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟!، قال: فهل أسلمت؟، قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى) رواه الطبراني. الرفق: كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحاب المعاصي الرفق، وكان يعظهم ويبين لهم الحكمة التي شرعها الله في تحريم الحرام، فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: (إن فتى شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادْنُه، فدنا منه قريبا، فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال صلى الله عليه وسلم : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، ثم وضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء) رواه أحمد. وإذا كان العاصي جاهلا وارتكب المعصية وهو يظن جوازها، تلطف النبي صلى الله عليه وسلم معه بالإنكار عليه ولم يعنفه، فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّياه (وافَقْد أمي لي)، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟!، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (ما نهرني ولا عبس في وجهي)، ولا ضربني، ولا شتمني، قال صلى الله عليه وسلم : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم. قال النووي: “فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من عظيم الخُلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم.. وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه و سلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه". ومع أن الرفق هو الأصل في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للعاصي إلا أنه صلوات الله وسلامه عليه كان أحيانا يغلظ في الإنكار على العاصي لمصلحة تربوية يراها، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين، فقال: أأمك أمرتك بهذا؟، قلت: أغسلهما، قال: بل أحرقهما)، وفي رواية: (إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما) رواه مسلم. الثياب المعصفرة ليست من ملابس الرجال، وإنما تلبسها النساء، فإذا لبسها الرجل تشبه بالمرأة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعلها قد كانت من ملابس الروم أو فارس، فلذلك قال: (من ثياب الكفار). بل ربما بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في تأديب العاصي، فهجره وأمر الناس بهجره، إن كان في ذلك مصلحة تربوية للعاصي نفسه أو لمن حوله، كما حصل مع الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، مع الأخذ في الاعتبار العلم بأن تطبيق هذا الهجر وهذه الشدة يجب أن تتم مع أمن الوقوع في الفتنة لمن يُطَبَق عليه ذلك. الستر: كثرت النصوص النبوية التي تحثُّ على ستر المسلم، وتحذر من تتبُّع عوراته وزلاَّته، ومن ذلك قوله - صلَّى الله عليْه وسلم -: (مَن ستر مسلمًا ستَرَه الله يوم القيامة) رواه البخاري. قال ابن حجر عند شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن ستر مسلمًا): “أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره، أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلم -: (مَن ستَر عورةَ أخيه المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة، ومَن كشفَ عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته) رواه ابن ماجه. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من علم من أخيه سيئة فسترها عليه ستر الله عليه يوم القيامة) رواه أحمد. فائدة: الأصل فيمن رأى المنكر أن يقوم بالإنكار على فاعله مع الستر عليه وعدم التشهير به، لما ورد في قصة ماعز رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم يقال له هزال: (يا هزال لو سترته بردائك لكان خيراً لك) رواه الطبراني. فهذا فيمن لم يكن مجاهرا بالمعصية، فإذا كان مجاهرا ومفتخرا بالمعصية فإنه يجوز الكلام عنه لردعه وردع غيره حتى لا تنتشر الذنوب ولا يُتهاون بشأن المعصية. قال الحافظ في الفتح: “وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به، دون ما لم يجاهر به". لا شك أن المذنب والعاصي له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه بأفضل الطرق وأقومها، فلو أن المسلمين وخاصة الدعاة اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلوا جهدهم في النصح للعاصي بهذا الأسلوب النبوي الكريم، وما فيه من رفق وستر، وشفقة ورحمة، لأثروا بأسلوبهم في العصاة والمذنبين، تأثيرا يجعلهم يسارعون لتنفيذ أوامر الله، ويتمسكون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فإن خير الزاد التقوى
القرآن الكريم كتاب إرشاد وهداية للعباد، فهو لا يكتفي بزجرهم عن كل ما يضر بهم في الدنيا والآخرة، بل يوجه سلوكهم في الدنيا وفق شرعه، وينظم حركتهم بحسب هديه، ويدلهم على كل ما يأخذ بيدهم إلى طريق النجاح والفلاح والفوز في الدنيا والآخرة.
ومن الآيات المؤكدة على هذا المعنى، قوله تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" (الحج: 197)، فقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن فريضة الحج، وأهم الأعمال التي ينبغي على المؤمن القيام بها. وجاء في سبب نزولها بضع روايات، نستعرضها تاليا، لنستشف من خلالها المراد من هذه الآية الكريمة:
الرواية الأولى: روى البخاري في “صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس. فأنزل الله تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وهذا أصح ما جاء في سبب نزول هذه الآية. وهي تفيد أن الآية نازلة في أهل اليمن.
وأورد ابن كثير رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان أناس يخرجون من أهليهم، ليست معهم أزودة، يقولون: نحج بيت الله، ولا يطعمنا.. فقال الله: تزودوا ما يكفُّ وجوهكم عن الناس. وهذه الرواية لم تحدد أقواما بعينهم، بل جاءت مطلقة.
الرواية الثانية: روى ابن كثير عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم- رموا بها، واستأنفوا زادا آخر، فأنزل الله تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فنهوا عن ذلك. وهذه الرواية أيضا جاءت مطلقة، ولم تحدد قوما بعينهم.
الرواية الثالثة: روى الطبري عن عطاء، قال: كان الرجل يخرج، فيحمل كَلَّه -عبأه- على غيره، فأنزل الله تعالى: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وهذه الرواية جاء السفر فيها مطلقا، ولم يأت مقيدا بسفر الحج.
الرواية الرابعة: روى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان، قال: لما نزلت هذه الآية: “وتزودوا"، قام رجل من فقراء المسلمين، فقال: يا رسول الله، ما نجد زادا نتزوده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى". وهذه الرواية جاءت مطلقة حتى من مطلق السفر، بحيث تشمل المقيم غير المسافر.
ولا شك، فإن الرواية المعول عليها في سبب نزول هذه الآية رواية البخاري، وهي صريحة في أن الآية نازلة في أهل اليمن، حيث كانوا يقصدون الحج من غير أن يتزودوا بما يحتاجون إليه من طعام ونحوه، فأمرهم الله بالتزود بالطعام وما يحتاجون إليه في سفرهم، ونبه إلى أن أهم ما يُتزود به في هذه الحياة عموما، وفي الأسفار خصوصا، وفي سفر الحج على وجه أخص، إنما هو تقوى الله، ولذلك قال: “فإن خير الزاد التقوى".
والروايات الثلاث الأخيرة، لا تخالف رواية البخاري، غاية ما فيها أنها جاءت مطلقة، ولم تعين من نزلت الآية في حقهم. وهي تدل على أن الخصوص الذي جاء في راوية البخاري لا عبرة به، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد وردت روايات أخرى مطلقة تدل على أن الخصوص هنا غير مراد، كالذي روي عن إبراهيم النخعي، قال: (كان ناس من الأعراب.. )، وكالذي روي عن مجاهد، قال: (كانوا يسافرون.. )، وفي رواية أخرى له، قال: (كان أهل الآفاق.. )، وفي رواية ثالثة له، قال: (كانت قبائل من العرب.. ).
وظاهر الآية الكريمة، وما جاء في سبب نزولها يفيد أن المراد من الآية، حث من عزم على سفر وحج أن يتزود بأسباب الحياة المادية من طعام وشراب وكساء ونحوها من الضروريات التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها، وهذا حق لا ريب فيه، والآية دالة عليه بظاهرها.
بيد أن بعض أهل العلم يرى أن سياق الآية لا يسعف بتلك الدلالة، وذلك أن قوله سبحانه: “فإن خير الزاد التقوى" راجع إلى قوله: “وتزودوا" فكان تقديره: وتزودوا من التقوى، والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات، وترك المحظورات.
ويمكن أن نوفق بين هذا القول وبين ما جاء في سبب النزول من جانبين:
الأول: أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر -وفي الحج خاصة- إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك، وبحسب هذا، يصح دخوله تحت مفهوم الآية. فيكون عدم تزوده بالأسباب المادية مخلا بجانب التقوى المأمور بالتزود بها، من جهة أن ذلك ينعكس على قيامه بالعبادات على النحو المحقق للتقوى.
الثاني: أن في الآية حذف تقديره: وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل، فإن خير الزاد التقوى. والذي يغفل عنه كثير من الناس التزود المعنوي، فما أنشط الناس على التزود لأسفارهم بماديات الحياة، بينما آخر ما يفكرون به التزود للحياة الآخرة، والتي هي دار القرار.
وللإمام الرازي في هذا المقام كلام طيب، حيث يقول: “إن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد، وهو الطعام والشراب والمركب والمال، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله، ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول.. فكأنه تعالى قال: لما ثبت أن خير الزاد التقوى، فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إن كنتم من أرباب الألباب، الذين يعلمون حقائق الأمور، وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه من كثرة المنافع".
أخيراً، فإن هذه الآية أصل في الأخذ بالأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله والاعتماد عليه، بل حقيقة التوكل تقتضي طلب الأسباب، وتقتضي كذلك ترك النتائج لمسبب الأسباب، والرضا بما تسفر عنه تلك الأسباب.
زمزم
خير ماء على وجه الأرض، وأقدم ماء، فقد مضى على وجوده نحو خمسة آلاف سنة، وهو أنقى ماء على وجه الأرض كما أثبتت ذلك التحاليل المخبرية، وهو مع ذلك طعام طعم، وشفاء سقم، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك وجوده في أقدس بقعة على وجه الأرض، فأي فضائل اجتمعت لماء مثل هذا الماء؟!
ووجود ذلك الماء في هذا الوادي القاحل كرامة خص الله بها سيدنا إسماعيل وأمه هاجر، بل وكل من جاء وسكن تلك البلدة المباركة أو زارها، وهي سبب لعمران وحياة مكة المكرمة، ومن الآيات البينات في الحرم.
وقد كانت البئر قريبة من البيت وظاهرة على وجه الأرض، فهي لا تبعد عنه سوى 21 مترا تقريبا. حتى كثر الطائفون بالبيت فاضطروا إلى توسيع المطاف وجعلوا للبئر بدروما تحت المطاف، يدخل الناس منه إليها، وفي القريب أغلق هذا البدروم أيضا، وجعل الشرب من البئر من صنابير خاصة خارج المطاف.
ومما ورد في فضلها ما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنها مباركة، وإنها طعام طعم).
ومما ورد أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء السقم) رواه ابن حبان في صحيحه، وحسنه السيوطي.
ومن ذلك حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا: (ماء زمزم لما شُرب له) رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي، وحسنه ابن القيم في زاد المعاد.
ومن السنة تسمية الله قبل الشرب، وحمد الله بعده، والتنفس ثلاثا، والتضلع من الماء عند شربه، وهو الإكثار من الشرب حتى يتمدَّد الجنب والأَضلاع، والدعاء من خيري الدنيا والآخرة.
فهذه بعض الأحاديث الواردة في فضل زمزم تبين خيرها وبركتها، فاحرص - أخي الحاج - على أن تتضلع منها، وأن تدعو الله بما تحب من خير الدنيا والآخرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.