على إثر إعلان المحضرة القضائية عن نتائج التصويت الذي جرى بفندق الرياض، ظهيرة الواحد والثلاثين من الشهر المنصرم، والذي انتهى بسحب الثقة من الأمين العام، صرح السيد عبد العزيز بلخادم، أن هزيمته قد تضمنت انتصارا باهرا للديمقراطية، وأن في ذلك انتصارا له شخصيا، إذ يدل على أنه قاد الحزب، خلال كل هذه السنوات، في الاتجاه الصحيح. إن هذا التصريح، معسول الكلمات، ما كادت تنشره وسائل الإعلام حتى تراجع عنه صاحبه وضرب به عرض الحائط، ليعود إلى قاعة الاجتماع ويعلن أنه يرفض “ترك التشكيلة السياسية الأولى في البلاد من دون أمين عام"، ثم اعتلى المنصة وعرض على الحاضرين أسماء من أعضاء اللجنة المركزية، قال إنه يقترحهم مكتبا يتلقى الترشح لمنصب الأمين العام الجديد، مضيفا، بكل استخفاف “أن الطرف الآخر يستطيع تعيين ستة أعضاء يمثلونه". إن هذا الموقف الغريب يستدعي مجموعة من الملاحظات نوجزها فيما يلي: 1 - إن مجرد عودة السيد بلخادم إلى المنصة وتنصيب نفسه رئيسا للدورة، بعد أن سحبت منه الثقة وأصبح واحدا من الأعضاء العاديين، يشكل اعتداء صارخا على القانون الأساسي والنظام الداخلي، وتنافيا مع الأخلاق وانتقاصا من الروح النضالية التي تفضل الصالح العام على المصلحة الخاصة، والتي ترفض كل ما من شأنه أن يحدث الشقاق والفتنة في صفوف الحزب. 2 - لقد كان عليه أن يترك اللجنة المركزية تعين أكبر الأعضاء وأصغرهم سنا، ليتوليا الإشراف على اختيار مكتب جديد للدورة، فتستأنف أشغالها وفقا لجدول الأعمال المرسل رسميا إلى جميع الأعضاء. وإذ لم يفعل، فإن السيد بلخادم قد تصرف تصرفا أحمقا، لا علاقة له بصفات المناضل المسؤول وتسبب في تقسيم الحزب إلى شقين وكان ينبغي أن يدعو، كأمين عام سابق، إلى الحفاظ على وحدة الصف والتأكيد على موقفه الحيادي بالنسبة لعملية اختيار الأمين العام الجديد حتى يبقى منسجما مع تصريحه القائل إنه “تمكن من ترسيخ الممارسة الديمقراطية في حزب جبهة التحرير الوطني". 3 - إن تكريس فكرة الشقين (الموالي والمعارض) المدعومة بروح الحقد والعداوة، جريمة في حق الحزب الذي لا يكون قويا إلا بمناضليه غير المشتتين، طبعا. وقد كان على السيد بلخادم، مباشرة بعد سحب الثقة، أن يتوجه لكافة أعضاء اللجنة المركزية، فيبارك النتيجة ويدعوهم إلى فتح صفحة جديدة في طريق تطوير الحزب وتدعيمه بتمكينه من توظيف سائر الطاقات الحية فيه. إن ذلك لم يحدث، مع شدة الأسف، وإذ لم يحدث، فإنه قد أحدث شرخا قد يستحيل ترميمه في القاعدة الأساسية للحزب، خاصة وأن عددا كبيرا من أعضاء اللجنة المركزية لا تتوفر فيهم شروط النضال، إنما عينوا فيها بسبب الولاء الشخصي أو لأغراض أخرى، وكان ذلك واحد من المآخذ المعتمدة في الدعوة إلى سحب الثقة من الأمين العام. 4 - إن سلوك الأمين العام السابق ذلك المسلك الغريب قد كشف حقيقته البعيدة كل البعد عن الفكرة الحزبية التي تتغذى فقط من منظومة الأفكار التي يؤمن بها جميع المناضلين، والتي ترفض الولاء الشخصي والجهوية الضيقة، إضافة إلى كونها تشكل قاسما مشتركا بين القمة والقاعدة وبين إطارات الحزب على جميع المستويات، ومن ثمة فإن العودة إليها تكون ضرورة حتمية لحل سائر الخلافات. 5 - إن الإجراء الذي لجأ إليه السيد بلخادم، عندما اقترح إسناد تسيير شؤون الحزب إلى أكبر وأصغر أعضاء المكتب السياسي سنا، طبقا لنص المادة التاسعة من النظام الداخلي للجنة المركزية، إنما هو نصب واحتيال، لأن المادة المذكورة تتعلق بحالة شغور منصب الأمين العام بسبب الوفاة أو الاستقالة. وفي قضية الحال، فإن الأمر يخص سحب الثقة من المسؤول الذي عين أعضاء المكتب السياسي. وليس من المعقول أن تسحب الثقة، لأسباب العجز والفساد والاستبداد بالرأي، من الأمين العام ولا تسحب من أعضاء المكتب السياسي الذين عينهم والذين شاركوه مسؤولية الأعمال التي قادت إلى تنحيته. والواقع، إنه إنما فعل ذلك لعلمه أن الأكبر سنا والأصغر سنا من بين أعضاء المكتب السياسي كانا مدينين له شخصيا ولا يهمهما مصير الحزب. ولو كان أعضاء المكتب السياسي يؤمنون بحزب جبهة التحرير الوطني، فعلا، لرفضوا الطبخة السمجة واختاروا الخروج من الباب الواسعة وإعطاء اللجنة المركزية فرصة قد لا تعوض للحفاظ على وحدة الصفوف والخروج من الدورة العادية بأمين عام جديد يحظى بتأييد الجميع ومباركتهم ويكون، في ذلك، مصدر قوة ودفع مكينين بدلا من الشرخ القاتل والانقسام اللامعقول اللذين طبعا انفضاض الدورة العادية للجنة المركزية دون تحديد موعد استئناف أشغالها. 6 - لقد كان من الواجب، الذي لا مراء فيه، أن يترك السيد بلخادم قاعة الاجتماع مباشرة بعد الإعلان عن سحب الثقة في انتظار استدعائه للامتثال أمام لجنة الانضباط المركزية لتحاسبه على المآخذ التي كانت أساس سحب الثقة، والتي كان أخطر مظاهرها تغييب المرجعية الفكرية وممارسة الديمقراطية داخل الصفوف، وكذلك التسيير العشوائي خارج القانون الأساسي والنظام الداخلي، مما ترتب عنه انفصال القواعد المناضلة عن قياداتها وانعدام الشرعية على كل المستويات، وتلاشي المبادئ التي كانت هي إسمنت العلاقة التي تربط المناضلين فيما بينهم، وتربطهم بمسؤوليهم أينما وجدوا وعلى جميع المستويات. كل ذلك، بالإضافة إلى إدخال ثقافة الشكارة إلى حزب جبهة التحرير الوطني، الذي تدعو كل أدبياته إلى التحلي بروح النزاهة والصدق والإخلاص، وهنا تجدر الإشارة، إلى أن الأمين العام السابق قد فتح الباب على مصراعيه لأرباب الأموال يتولون مباشرة عددا من المناصب القيادية التي تجعل منهم أصحاب الحل والربط في تشكيلة سياسية لا يعرفون عنها شيئا ومنهم من كان، بالأمس القريب، يناصبها العداء ويعمل بكل الوسائل لكسر أجنحتها. 7 - لقد كان الحزب واحدا في تشكيلته، ينطلق من منظومة أفكار واحدة، ويعمل على تطبيق برنامجه السياسي المنبثق عن أشغال المؤتمر، وهو ذات البرنامج الذي يكون قد نزل به إلى الجماهير الشعبية لنيل ثقتها في جميع الاستحقاقات الوطنية والمحلية على حد سواء. لكن تصرف السيد عبد العزيز بلخادم، بعد أن سحبت منه الثقة، قد حول الواحد اثنين، خاصة عندما قال: “وعلى الجانب الآخر أن يعين ستة أعضاء يمثلونه". فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، بعد قراءة هذه الجملة، هو: من هو الجانب الآخر، الذي يعنيه الأمين العام السابق، مع العلم أن الصراع، منذ بدايته، لم يكن صراع أشخاص بل كان صراع بين قياديين دعوا، مخلصين، إلى تطهير اللجنة المركزية من الدخلاء الذين لا تتوفر فيهم حتى شروط الالتحاق بصفوف الحزب، لكنهم وجدوا أنفسهم فيه قياديين يتحكمون في مصائر المناضلين الحقيقيين، وبين أمينهم العام، الذي رأى في عملية التطهير تحجيما له كونه ولي أولائك الدخلاء. مع العلم أن أولائك الدخلاء هم الذين صوتوا لتجديد الثقة فيه، ولولاهم لما حصل ما حصل عليه من الأصوات، يوم الواحد والثلاثين من شهر يناير، ولولا وجودهم باللجنة المركزية لما وقع التشتت الذي ترتب عنه الشرخ، لأن المناضل الحقيقي لا يقف إلى جانب من يتسبب في الانقسام، حتى لو كان هو ولي نعمته. 8 - لم يكن الصراع قائما بين جناحين في حزب واحد، يختلفان حول تفسير منظومة الأفكار أو حول أسلوب العمل على إنجاز مشروع المجتمع، الذي كانت قد بشرت به جبهة التحرير الوطني، ليلة أول نوفمبر من عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف، لكن الأمر، منذ البداية، كان متعلقا بالمقاييس والمعايير التي يجب اعتمادها في الترشيح للانتخابات على جميع المستويات، وفي اختيار المسؤولين الذين تسند إليهم مهمة الإشراف والتوجيه. فالأمين العام المسحوبة منه الثقة، كان يرى أن كل ذلك من اختصاصه وحده وأنه الزعيم الأوحد الذي لا تناقش قراراته، مما أدى إلى انتفاضة القياديين الواعين الذين هم، جميعهم، من قدماء المناضلين والمسؤولين من القاعدة إلى القمة. 9 - إن الصراع الذي تراكمت أحداثه ومظاهره إلى أن تجسد، أخيرا، في سحب الثقة من الأمين العام، لم يكن وليد البارحة، بل إن تاريخه يرجع إلى العهدة الرئاسة الثانية، عندما ارتفعت أصوات من أعضاء الهيئة التنفيذية التي تدعو إلى عدم المطالبة بعهدة رئاسية ثالثة قبل انتهاء الثانية التي يجب إخضاعها للدراسة والتمحيص والتقييم، بعدها تتولى القيادة السياسية تحديد الموقف النهائي الذي يحافظ على سلامة الحزب ويبقيه تشكيلة سياسية قائمة بذاتها ومحترمة لمنظومة أفكارها. لكن السيد عبد العزيز بلخادم، لم يعر أدنى اهتمام لتلك الأصوات، وتواصل في غيه الذي سيفضي به إلى المطالبة بالعهدة الرابعة بالطريقة نفسها. مع العلم أن القياديين المطالبين باحترام المنهجية العلمية (التي ما أبعدها عن المؤامرة العلمية)، لم يكونوا منحازين لشخص معين، لكنهم كانوا يسعون لإعطاء الحزب حجمه الحقيقي الذي يختلف كلية عن حجم الزوايا وجمعيات المساندة. 10 - إن الصراع بين السيد الأمين العام المخلوع والقياديين الذين تسموا بتسميات عديدة، لم يكن، كله على الأقل، بسبب فقدان البعض مناصبهم في القيادة العليا أو لعدم ترشيح بعضهم الآخر في قوائم المجالس المختلفة، كما تناقلت ذلك وسائل الإعلام نقلا عن مصادر كثيرة وكما يحلو للسيد عبد العزيز بلخادم أن يردد كلما اشتد عليه الخناق، لكن بعض دوافعه تكمن، بالإضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه، في رغبة المناضلين الحقيقيين الخروج من وضع الجهاز الذي ينفذ الأوامر التي لا يعلم أحد من أين تأتي والرجوع إلى حالة التشكيلة السياسية التي تعمل على تعبئة شرائح المجتمع في إطار البرنامج الذي يكون قد صادق عليه المؤتمر انطلاقا من منظومة الأفكار التي لا تتناقض مع المحاور الأساسية الواردة في بيان أول نوفمبر. 11 - لم يكن الأمين العام السابق، متمرسا في التعامل مع القواعد المناضلة في الحزب، ولم يكن يدرك أن النضال مبادئ وأخلاق، وأكثر من ذلك، كان يعتقد أن السلوك الإداري يكفي للحفاظ على بقايا حزب جبهة التحرير الوطني، لأجل ذلك لم يتردد في الاعتماد على مجموعة من الصعاليك والبلطجيين الذين تشمئز منهم النفوس الأبية، والذين لا هم لهم سوى الجري وراء المصلحة الخاصة، ولا يترددون في انتهاج جميع المسالك، بما في ذلك الكذب والنفاق، للوصول إلى مبتغاهم الذي هو، عادة، متناقض مع ما تصبو إليه جماهير الشعب. وأكثر من الجري وراء المصلحة الخاصة، فإن بعض مساعدي الأمين العام المقربين، لا يترددون في توظيف الكلاب والسوقة للاعتداء على الإطارات أثناء التجمعات التي تنظم بمناسبة الاستحقاقات أو من أجل اختيار الكفاءات على جميع المستويات. لقد أدى ذلك الواقع، المزري، إلى ابتعاد المناضلين الحقيقيين ثم إلى اتساع الهوة بينهم وبين رأس القيادة، الذي صار كلما تقدم الزمن كلما ازداد غرورا واستبدادا وتنكرا لمبدأ “الجماعية" الذي كان في أساس النجاحات التي حققتها جبهة التحرير الوطني أثناء فترة الكفاح المسلح. 12 - إن مسؤول الحزب الذي يكون، فعلا، في مستوى مهامه، إنما هو ذلك الذي يحظى بالاحترام، وينزه عن ممارسة الكذب والنفاق والنميمة وخلق العداوات بين الناس عامة والمناضلين بصفة خاصة. ولو كان ذلك واقعا في حزب جبهة التحرير الوطني، لكان الأمين العام قادرا على التحاور وعلى إيجاد الحلول الملائمة لكل المشاكل، بما في ذلك الزائفة منها، لأن مسألة تنقية القيادة العليا من العناصر التي لا تتوفر فيها الشروط المنصوص عليها في القانون الأساسي ليست مشكلة جوهرية يصعب حلها عندما تتوفر الإرادة السياسية الصادقة، وكذلك عندما يتعلق الأمر بتطهير الصفوف من العناصر المدسوسة أو المجلوبة لأغراض مبيتة لا تخدم النضال ولا تمت بصلة إلى المصلحة الوطنية. 13 - يبقى أن تنصيب الأمين العام السابق لمكتب مشكل من الأكبر والأصغر سنا من بين أعضاء المكتب السياسي، هو عمل غير قانوني، إذ ما هي الصفة التي خولته رئاسة الاجتماع بعد أن سحبت منه الثقة وأعلن عن ذلك بكيفية رسمية؟ لقد تسبب تصرفه بتلك الطريقة في إحداث الفوضى العارمة التي جعلت الأكبر سنا ينصب نفسه منسقا عاما للحزب، يجمع المكتب السياسي ويمارس مجموعة من الصلاحيات التي لا علاقة لها بأشغال دورة اللجنة المركزية التي لم تختتم أشغالها بعد. وكان من المفروض أن يفسح المجال للمكتب، الذي وافق عليه المشاركون في الدورة، فيعمل على تحديد تاريخ الاستئناف قصد النظر في طلبات الترشح وإنهاء الأشغال. هذه وقفة خفيفة أمام المحطة التي نزل فيها السيد عبد العزيز بلخادم من قطار حزب جبهة التحرير الوطني، الذي كان قد ركبه، خلسة، بينما كان التآمر في أشده من أجل تنحية سابقه. إنني لا أريد القول، هنا، إن سابقه ضحية المؤامرة الأخرى قد دفع ثمن تذكرة الركوب وارتقى السلم بكيفية طبيعية، لكنني فقط، لأذكر بأن طريقة التعيين والعزل لم تتغير منذ أن وقع الانقلاب العسكري الذي قضى على مؤسستي المجلس الوطني للثورة الجزائرية والحكومة المؤقتة، بتاريخ الثاني والعشرين يوليو سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف. فالانقلاب العسكري، المذكور، هو الذي أدخل جبهة التحرير الوطني متاهة الأزمات المتتالية وأخرجها من الحياة السياسية لتصبح مجرد جهاز تستعمل أحرفه الثلاثة غطاء تتستر به جميع أنواع المافيا التي تعاقبت على السلطة والتي تمكنت، بالتدريج، من إجهاض ثورة نوفمبر عن طريق التنكر لمشروع المجتمع الذي كان في أساس إرغام العدو على قبول وقف إطلاق النار في التاسع عشر مارس سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف. وللحديث بقية، إن تلك الأزمات ما كانت لتتلاحق، تهد أركان الثورة وتنخر أواصر المجتمع، لو أننا، في الجزائر، كنا نعطي الأهمية اللازمة لعلم التاريخ فنوظف سلبياته وإيجابياته لعدم الوقوع في الأخطاء نفسها التي ارتكبها الأسلاف والتي كانت كلفتنا أثمانا باهظة.