لعل أبلغ تعبير أفتتح به موضوعي يكمن في العبارات التالية للمفكر الكبير الخطيبي: (كان فرانز فانون، قبيل وفاته، قد وجه هذا النداء: “أيها الرفاق، لقد ولّى عهد اللعبة الأوربية، فلنبحث عن بديل". فهل ينبغي لنا أن نتخلى عن أوربا ونبتعد عنها إلى الأبد؟ أليس هذا مجرد وهم، ما دامت أوربا تسكن وجودنا في صميمه؟ و فوق هذا كله، فإننا نعتقد أن الوجود العربي في مسألته القصوى، غرب لا يلين في اختلافه. إذا كان الغرب حالا فينا، لا كمجرد شيء خارج عنا مطلق الخروج، وكاختلاف ينبغي أن نقيسه باختلاف آخر، يلزم هو كذلك، أن ندركه في علاقته و مدى بعده عن الأطراف الأخرى للوجود، إذا لم يعد الغرب مجرد ذلك الوهم المتولد عن فزعنا، فيتبقى علينا أن نعيد النظر في كل شيء مهما كلفنا ذلك. لنطلق على هذا الانفصال الزائف الذي يرمي بالآخر في خارج مطلق، “اختلافا متوحشا". إن هذا الاختلاف لابد وأن يضيع في متاهات الهويات الحمقاء. وهذا شأن النزعات “الثقافية والتاريخية والقومية والشوفينية والعنصرية". هذا القول بالاختلاف المتوحش “المتوحش والساذج" كان شعار الحملة المسعورة التي سادت فترة مقاومة الاستعمار، حيث كان نقد الغرب يتم داخل جو مشحون بشعور بالحقد، ويتغذى على الهيجيلية في أحط صورها. وها نحن ما زلنا نتساءل أيّ غرب نعني؟ هل هو غرب يعارضنا أم هو حال فينا نحن؟ وما هذا النحن الذي نتحدث عنه؟.). لقد تعمدت سرد كل هذا الكلام للخطيبي لأنه من أعمق وأدق الذين بلوروا ما يظل نابضا بالحيوية. و عندما نراجع المدونة التاريخية نجد عالما جزائريا كأبي راس الناصري يتحدث عن الثورة الفرنسية ونرصد ما يكتبه الأمير في رسالته إلى الفرنسين وما يسجله حمدان خوجة من ملاحظات ... تلك النظرة التي نستحضرها لنقرأ ونتدبر ونعتبر ونجيد النظر والرؤية حتى يرشد الرأي ويستقيم السلوك. هي أوربا الحاضرة فينا، حضورا ملتبسا بما ترسب من تراكمات، امتداد متبادل، نحن فيها وهي فينا، امتداد مركب بتسلسل صراعات وبتشابكات وتثاقفات تصغ الحياة ... هي الشمال ونحن الجنوب بتصنيفات اتبعناها لأن صاحب القوة يمتلك سلطة التسمية ... وفي التسمية استراتيجيات تتعدد، تسمية التعمية وتسمية التبصرة ... العلاقة مع أوربا موضوع متعدد ومركب، موضوع تحليل نفسي واستقصاء أنثربولوجي ومعاينة سوسيولوجية ورصد استشرافي. وبقدر حضور أوربا فينا يسجل حضورنا، فمنابع الغرب كما كتب غارودي: “إنما ولدت في آسيا وإفريقيا “ . و«إن ما اصطلح على تسميته باسم (الغرب) إنما ولد في (ما بين النهرين)، وفي ( مصر)، أي في أسيا وإفريقيا". أوربا متعددة، تعددا مغايرا لما تنمط من اختزالات تنتج تمثلات تحجب عن تبصر يتيح للهوية أفاقا. أوربا متعددة، مركب من الاختلافات التي ائتلفت في اتحاد باستراتيجية السياسيين المتبصرة ببنيتها على العقل الفعال. أوربا تمثل ضفتنا الأخرى، وفي سير التاريخ كان الاتصال معها في ظل حيثيات مختلفة، وكل ما تراكم كان الأثر الممتد في الوعي واللاوعي. أوربا ليست فقط أوربا الاستعمارية، إنها أيضا أوربا عصر الأنوار، أوربا فلسفة الخلخلة وتقويض الأوثان من نيتشه إلى ديريدا ...إنها ليست فرنسا فقط كما تكرسها بعض الدوائر، إنها التعدد في الايقاعات والتوقيعات والتسميات والمناخات ، إنها نموذج جدير بالاعتبار. مصيبتنا تتفاقم بهيمنة التحديد التنميطي الذي يجعلنا رهائن التمثلات المحددة بكليشيهات محددة ... ومن التناقضات أن بعض من يرفعون خطابات الفصل والعزل يلوذون نحو أوربا ويحققون حضورهم فيها. أوربا متعددة، تعددا يثري الرصيد الإنساني فالصيرورة البشرية تشاركية والتهجين مصدر الإبداع العظيم كما عبر مرة أدونيس في حوار مع الراحل بختي بن عودة. من أوربا والغرب عموما تشكلت الحركات المضادة لوجهة منظومة الهيمنة المنتحلة لتشكل العولمة، حركات تصغ التفاعلية الحضارية وتجتهد لإبداع بديل الأمل، بديل بمرجعيات فكرية حفر وتفكيك يقوض التماثلات والتمثيلات الاستبعادية، يخلخل المركزية ويتجه نحو الهامش، بديل حركات بأفكار فاعلين فكريين ناشطين ميدانيا أمثال نعوم شومسكي وستيفان هيسل وجان زيغلر وريجيس دوبري وغارودي ... الآخر محدد الأنا، وبين الطرفين تداخلات وتقاطعات ... من الأنا؟ من الآخر؟..في كل منا لآخر، الآخر يصغ الأنا ...و أوربا حاضرة فينا مثلما لنا حضور فيها، أوربا حاضرة في امتدادنا المتوسطي، امتدادا أمدنا بما كثف التلقيح الذي صاغ هويتنا. الحديث عن الوصل والاتصال والتفاعل والحوار يدفعنا لاستحضار النموذج الأندلسي، ليس كتاريخ مضى وإنما كمرجعية أومنجز ملهم لحوارية دفعت جاك بيرك إلى جعل الأندلس عنوانا لمداخلته لما تم تكريمه في الكوليج دوفرانس ودفعت غارودي إلى إقامة معهده للحوار بين الحضارات في قرطبة وكتب كتابا عن قرطبة كعاصمة للعالم والفكر، ذكر في ختامه بأن تلك النهضة التي كانت في الأندلس، تستطيع إذا تمت معرفة العمل على إحياء روحها من جديد: “تقديم الإجابة على المشاكل الكبرى لزماننا. فالعمل اليوم على إحياء التصور غير المحدود للعقل الذي كان تصورا للأندلس وقرطبة، هو محاربة المضرين القاتلين لعصرنا". والهاجس الذي حمله غارودي هو تمديد ما وصفه بالمغامرة الرفيعة" من التلاقح في الأندلس حيث لا ينفصل المنظور اليهودي والمسيحي والإسلامي أحدهم عن الآخر.".