خصصت مجلة الجيش، بمناسبة مرور 130 سنة على وفاة الأمير عبد القادر، الذي يعد مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة في عددها رقم 599 لشهر جوان الجاري، ملفا كاملا تناول جوانب مضيئة في حياته من مواقف وبطولات عسكرية وأدب وشعر مدعومة بشهادات لمؤرخين وباحثين وشخصيات تاريخية. بدأت المجلة في تناولها للملف من الملتقى الدولي حول الأمير عبد القادر والقانون الدولي والإنساني الذي احتضنه نادي الجيش من 28 إلى 30 ماي المنصرم، الذي سلط الضوء على المرسوم الذي أقره الأمير في سنة 1843 وحدد فيه بالتفصيل القواعد التي تحكم وضعية العساكر الجزائريين إزاء الاعتداء الاستعماري ضد وطنهم. هذا المرسوم الذي جاء أحاديا، سيدا وفريدا مؤسسا على احترام كرامة الإنسان حتى وإن كان عدوا محاربا معتديا ومغتصبا للأرض، مستمد ومستلهم من تعاليم الدين الإسلامي الذي يمثل مرجعية أخلاقية وفكرية وأدبية للأمير، قام من خلال مختلف أعماله بدحض افتراءات وزيف التعصب والرهبنة التي طالما حاول المغرضون إلصاقها بالدين الحنيف. ولا غرابة أن يشهد بهذا المؤرخون وحتى القساوسة المسيحيون، وقد اعترف رائد ومؤسس المنظمة الدولية للصليب الأحمر السويسري "هنري دونون" سنة 1857 الذي عاش في الجزائر، بأن الأمير عبد القادر وهو رمز المقاومة الجزائرية والقائد العسكري العادل صاحب فضل على الإنسانية في العصر الحديث، من خلال إرسائه لقواعد وأسس القانون الإنساني، وهو مدعاة لفخر الجزائريين. وتطرقت المجلة أيضا إلى العبقرية العسكرية التي تميز بها الأمير، ومكنته من الاستمرار في مقاومة الاستعمار على امتداد 17 سنة كاملة رغم فارق التسليح والعتاد بين عساكره وجيش الاحتلال الفرنسي، إلا أن هذا لم يثنِ من عزيمته، حيث عمد بعد مبايعته من القبائل، وبعد أن عرف أنه يحكم مجتمعا متباينا على أسس القبيلة والانتماء، إلى تذويب هذا العنصر من خلال تشكيله لجيش منظم تتوقف عليه قوة الدولة ومنعتها، فقسّم الجيش إلى فرق للخيالة والمشاة والمدفعية، وبحكمة القائد المدرب الواعي راح يرتب الجيش وينظمه ويسلحه حسب الإمكانيات وسنّ بعد ذلك وبموافقة مجلسه الشوري قانونا عسكريا يحدد المهام والواجبات المنوطة بكل فرد من الجندي إلى الضابط، وأنشأ الأوسمة العسكرية والنياشين لمكافأة المتميزين من الجنود والقادة وكذا الإجراءات العقابية للعصاة والمخالفين، وأقام استراتيجيته الحربية على عدم محاربة الفرنسيين في جموع كبيرة والاكتفاء بمضايقتهم ومطاردة أجنحتهم وقطع خطوط الإمداد على مراكزهم ونصب الكمائن المفاجئة والتراجع بشكل سريع لإشاعة الارتباك والحيرة فيهم، ومع ذلك فقد واجههم في معارك كبيرة من بينها معركة "المقطع" التي وقعت بين أرزيو ومستغانم في 28 جوان 1835 والتي كانت أول معركة يخوضها بتكتيك حديث وجيش منظم وهزم فيها الفرنسيين وكبدهم خسائر بمئات القتلى، ما دفع رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك للقول "إن غزونا للجزائر عملية خاسرة إلى الآن لم تنجح..."، ولم يغفل الملف جانبا آخرا من حياة الأمير وهو الأدب والشعر، حيث بدأ الأمير القراءة والكتابة في سن الخامسة وحفظ القرآن الكريم وتشبع من بلاغته وقرأ أعمال الفلاسفة والمفكرين، كما درس كتابات المشاهير من عهود الخلافة العربية عن التاريخ القديم والحديث وعن الفلسفة واللغة ما أعطاه زادا لغويا ورصيدا معرفيا أسس عليه تجربته الأدبية في الكتابة حتى عدّه المؤرخون واحدا من رواد مدرسة الإحياء والتجديد في المغرب العربي بصفة عامة وفي الجزائر بصفة خاصة. وهو الرجل الذي يخوض الحروب والمعارك، تميزت قصائده وأشعاره بالحماسة والبطولة، إذ كثيرا ما كان يبث من خلالها روح الكفاح والعزيمة والإقدام في نفوس المقاومين دفاعا عن كرامة الوطن وحريته في قوالب فنية محملة بثقافة أصيلة وشجاعة وفصاحة بيان وقول وقيم إنسانية واعية بالتسامح وحتمية السلام.