- رواية "القلاع المتآكلة" رصدت التحولات - والصدمات القوية التي عرفها المجتمع الجزائري الروائي والمترجم محمد ساري مبدع متنوع الاشتغال والإبداع، حيث كتب باللغتين العربية والفرنسية كما اشتغل في حقل النقد، أصدر كتبا نقدية عديدة، منها "البحث عن النقد الأدبي الجديد" و«محنة الكتابة"، بالإضافة إلى عمله في مجال التدريس الأكاديمي في تخصص السيميولوجيا والنقد الحديث. اشتغل في حقل الترجمة فنقل 19 كتابا إلى العربية، وكتب باللغتين العربية والفرنسية روايات عدة أرخت لأحداث الجزائر الحديثة وهي "على جبال الظهرة" و«السعير" و«البطاقة السحرية"، و«المتاهة" بالفرنسية، ثمّ "الورم" و«الغيث". روايته الأخيرة "القلاع المتآكلة" التي صدرت قبل أشهر، عن منشورات البرزخ، تدور حول الحراك الذي عاشه المجتمع الجزائري والصعود "الإسلاموي" فيه وظاهرة الإرهاب التي عاشتها الجزائر في العشرية السوداء الدموية. وفي هذا الحوار نطرح أسئلة عديدة على الدكتور محمد ساري، ليتطرق في إجاباته إلى تجربته الروائية والكتابة باللغتين والمناهج النقدية وتأثيرها على الإبداع. لنتحدث عن روايتك الأخيرة "القلاع المتآكلة"، كيف رصدت التحولات التي عصفت بالمجتمع الجزائري؟ أي دولة مرت بما مرت به الجزائر من عنف واقتتال، في 10 سنوات سماها البعض حربا أهلية والبعض الآخر حرب بلا اسم، لا يمكن لروائي أن يمر على هذه الفترة دون أن يقوم بنوع من التحريات ونوع من التساؤلات حول: ما هي جذور العنف ويمكننا العودة الى العنف على مستوى الاحتلال الفرنسي لنعيش بعده عشريتين هادئتين، ثم أزمة اقتصادية بحكم تدهور أسعار البترول ثم فجأة ندخل في مظاهرات 5 أكتوبر، وإذا بالشباب يخرج للشارع ويدمر ويرفع شعارات مناهضة لثورة التحرير ولفترة من التاريخ.. ومن بعد ذلك تجربة ديمقراطية تدخلك مباشرة في عنف دموي منقطع النظير. لماذا؟ هذه هي فقط تساؤلات مررت بها وأنا أكتب "الورم" ورافقني حين كتبت "الغيث"، وأيضا مع كتابتي للقلاع المتآكلة، وطبعا بما أنني روائي لا أقع فقط في التنظير فأنا أعرف الواقع الجزائري وأعرف القصص التي تحكى هنا وهناك عن مصائر شخصيات متعددة، ولهذا تخيلت كيف يمكن أن نحكي عن كل هذه الفترات ونقوم بحفريات في الواقع الاجتماعي والسياسي. في رواية "القلاع المتآكلة" رصدت التحولات والصدمات القوية التي عرفها المجتمع الجزائري عبر أسرة جزائرية، وتنطلق من حادثتين، الأولى هي العثور على الابن مقتول مرتدي الزي الأفغاني وفي يده مسدس، بساحة المدرسة التي كان الأب - المناضل اليساري الذي عاش أحلام وهموم جيل السبعينيات - مديرا بها، ثم تساؤلنا هل قتل؟ هل انتحر؟ أما الحادثة الثانية فهي مهاجمة متطرفين لشاحنة تقل مساجين للمحاكمة، ومن خلال الحادثتين تتشكل خيوط القصة المرواة عبر مجموعة من الشخصيات والقصص الفردية التي تشغلها أسئلة الواقع الجزائري. وتتشكل الرواية من خلال الصراع بين الأب وابنه وهو صراع بين مشروعين فكريين واجتماعيين مختلفين، واحد ولد في السبعينيات علماني حداثي مع كل تلك الأحلام الكبيرة حول الحداثة والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير مع أن له يد بما انفتح عليه الجيل الجديد "الاسلاموي"، ومشروع "اسلاموي" ولد في نهاية الثمانينيات وعصف بالجزائر ككل، عقل، سياسة، أمن واقتصاد.. وإذا المساجد تعج بخطابات هي أقرب للسياسة منها إلى الدين لنجد أنفسنا في دوامة الخوف والاقتتال. هل يمكن أن تحدثنا عن تقنية الكتابة أثناء اشتغالك على عملك الروائي؟ رغم الاهتمام الكبير الذي أوليته للبحث في مضمون الرواية، إلا أنني اعتنيت أيضا بالتقنية في هذا العمل الذي أشتغل عليه بشكل متقطع مدة سنتين. ولم أغفل الجانب السردي للرواية أو أي من فنيات الرواية من مكان، صراع، شخصيات، وأعتني بشكل خاص بالمسار الفردي للشخصيات حتى لا يتحول الخطاب السردي إلى خطاب فلسفي أو تاريخي أو سياسي، وكان عملي انطلاقا من حكاية واحدة، الحكاية الإطار هي التي تضم مجموعة من المحطات نسميها بجيوب سردية نستحضر من خلالها لحظات من الماضي تخدم السرد والآني. وإذن عندنا الرواية مقسمة إلى مستويين، وكل فصل يحتوي على مستويين تحليلي وسردي، في كل مرة أقدم مجموعة من الأفعال الماضية في عودة عبر الشخصيات المتعددة لأنها رواية حركة ومغامرة. أين يوجد الناقد بداخلك، وكيف يكون حاضرا لديك أثناء اشتغالك على الرواية؟ من الناحية المبدئية أعتقد أن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى هامش كبير من الحرية. بمعنى أنه لا ينبغي للكاتب أن يقوم بما يسمى المصادرة الذاتية وأن يقوم بحراسة مشددة ضد ما ينبغي أن يقال أو لا يقال. ولكن أثناء الكتابة أكيد أن المعرفة النقدية سواء التطبيقية أو النظرية تشكل مرشدا وعائقا في آن واحد. مرشدا لأنها تنير دروبا متعددة سردية ودلالية، متعلقة ببنية الرواية والحبكة والشخصيات وكيف تتكرر المشاهد وكيف تتقدم، وهل تقدم كل شيء في وقت واحد أم بتدرج، هنا فائدة وأهمية المعرفة النقدية. ولكن أحيانا أشعر بأن هذه المعرفة هي موجه بليد على أساس أنها تبقيك في الدروب المكشوفة المعروفة. بينما الرواية بحاجة لأن تكشف حتى من الناحية الفنية دروبا مجهولة، بمعنى أن تدخل في مغامرات أسلوبية وفنية قد تؤدي بك إلى سبر حقول جديدة لما لا. زيادة إلى حرصي الشديد على عدم الوقوع في الخطابات السياسية الفجة لأن موضوع الرواية سياسي واجتماعي بالدرجة الأولى، لهذا اشتغلت كثيرا على الجملة السردية الفردية المرتبطة بالشخصيات ومصائرها المتعددة تفاديا لاستخدام الخطابات التعميمية التي تبعد الرواية عن الفن. الكتابة الروائية احتراف، تحتاج إلى التكوين الدائم والمثابرة المتواصلة والاشتغال بذهنية الحرفي الذي لا يفرق بين البنى الصغرى والكبرى، لأن كل هذه العناصر مكونات أساسية للعمل المنجز. يحضر هنا الحديث عن الترجمة مع تقديمك الكثير من النصوص مترجمة إلى العربية ومن بينها ثلاثية محمد ديب وروايات ياسمينة خضرا.. ما هي خصوصيات الترجمة في المجال الأدبي؟ أولا، أنا أعتبر نفسي مترجما أدبيا، بما أنني لا أترجم إلا الروايات التي أتمتع بقراءتها أولا والتي تثير إعجابي بجماليتها وبدلالاتها ثانيا، ذلك أنني أعتبر هذه الترجمات قراءات أكثر عمقا بل أقول بأنها شبه تمارين أسلوبية وقد ساعدتني في الترجمة وأنا ترجمت روايات كبرى لكتاب جزائريين وعالميين ساعدتني على اكتشاف أسرار البنى القصصية على مستوى الجملة الوصفية السردية أو على مستوى بناء الحكاية وتقديم الشخصيات. وهي تجربة أعتبرها مثلى جدا. بالإضافة إلى هذه الرغبة الكبرى في أن يشاركني القارئ بالعربية ما أمتعني من قراءات بالفرنسية. ربما مازلت أتكلم عن فكرة المصالحة اللغوية لأن الوضع اللغوي في الجزائر معقد تتصادم فيه لغات عديدة، وبالأخص الفرنسية والعربية. بينما توجد إمكانية أن يتعايشا معا وذلك بتوفير نصوص الكتاب الجزائريين في اللغتين وهذا يساعد على التعايش والتقارب والتحاور. ما هو جديدك الذي تعمل عليه؟ الآن أشتغل على اكتمال قصة رواية "الورم"، لأن المشروع في بدايته كان يتشكل من جزءين كبيرين، الأحداث التي تدور داخل القرية والأحداث التي تدور في الجبال فانتهت رواية الورم عند خروج أبطالها من القرية، لهذا أواصل المشروع عن صراع المسلحين وكل ما وقع من عنف في مواجهات مع الجيش وسبي النساء والصراعات الفردية بين أفراد الجماعات المسلحة، وأيضا مقاومة القرويين ضد هذه الجماعات التي نقلت إليهم العنف.