حلّ الكاتب والمترجم الجزائري، محمد ساري، ضيفا على أول عدد من الصالون الأدبي الذي ينظمه الكاتب احميدة عياشي ببيته، واختار كافتتاح له قراءة متبوعة بنقاش لرواية "ساري" الجديدة "القلاع المتآكلة" مع تقديم من الجامعي "حميد علاوي".. "احميدة العياشي" في افتتاحه لهذه المبادرة الثقافية، التي تحيلنا إلى زمن الأنوار، النهضة والانفتاح على العقل الآخر في المجتمعات العربية، قال إنه يريد من هذه التجربة الجديدة خلق تقليد للحوار الجاد والاحتكاك بين المثقفين بشكل حميم في تجربة "أدب البيت"، لأن هذه اللقاءات تُعقد بمنزله الخاص، لخلق فضاء وديناميكية فكرية ونقدية في الوسط الثقافي بمختلف حساسياته. في صالون "إخوان الصفا" جلس الكاتب "محمد ساري" وتحلق حوله مجموعة من الأصدقاء الجامعيين، الكتاب، الصحفيين... وبشكل دافئ انفتحت أبواب روايته الأخيرة "القلاع المتآكلة" التي صدرت بمناسبة "المهرجان الدولي للأدب وكتاب الشباب" شهر جوان الفارط، عن منشورات البرزخ، وبذلك يكون ساري وقع ثلاثيته، بعد روايتي "الورم" و«الغيث"، حول الصعود "الإسلاموي" في المجتمع الجزائري وظاهرة الإرهاب التي عشناها في آخر عشرية من القرن الماضي، لكن هذه المرة - بعد أن أخذ الكاتب مسافة زمنية معقولة - كما يقول عن الحدث، ليحاول الغوص في جذور الصدامات الإيديولوجية في مجتمعنا، ليس في تلك الفترة فحسب، وإنما خلال الخمسين سنة الماضية. رواية "القلاع المتآكلة" التي ترصد التحولات والصدمات القوية التي عرفها المجتمع الجزائري من خلال أسرة تضم مختلف الحساسيات، تنطلق من حادثتين مرتبطتين ب "الإرهاب"، الأولى هي العثور على الابن (نبيل) مقتولا مرتديا الزي الأفغاني وفي يده مسدسا، بساحة المدرسة التي كان الأب (مناضل يساري ينتمي إلى جيل السبعينيات الطلائعي) مديرا بها. الحادثة الثانية هي مهاجمة متطرفين لشاحنة تقل مساجين للمحاكمة، وعبر الحادثتين تنسج خيوط "الحكي" وتتكاثف بين مجموعة من الشخصيات والقصص الفردية التي تستجدي الإجابة عن الأسئلة التي شغلت العقل الجزائري على مدار أكثر من عشريتين. وتُبرز الرواية من خلال علاقة الأب وابنه الصراع القوي الذي دار بين مشروعين فكريين واجتماعيين مختلفين، واحد ولد في السبعينيات (المشروع العلماني الحداثي)، ومشروع ولد في نهاية الثمانينيات (الإسلامي) وعصف بالجزائر ككل، عقل، سياسة، أمن واقتصاد.. وقال "ساري" إنه تعمد حبك مضمون متنه الروائي بهذا الشكل لتوضيح خطورة انسداد قنوات الاتصال في الأسرة الواحدة والمجتمع، حيث يؤدي غياب الحوار، حتما، إلى اتساع الهوة الإيديولوجية. أبرز نقاش صالون "إخوان الصفا" في عدده الأول، تفاقم وخطورة ظاهرة العنف التي عرفتها وتعرفها الجزائر، والتي جاءت ثلاثية ساري كرصد دقيق لها، حيث يستنطق الكاتب في متنه الروائي جذورها وأبعادها بشكل عميق خاصة في آخر أعماله، الذي وصفه قائلا "أردت إلقاء نظرة عميقة حول استشراء هذه الظاهرة في المجتمع، خصوصا بعد الأشكال الوحشية التي وصلت إليها فيما أصبح يعرف بالعشرية السوداء"، تلك المرحلة الصادمة في تاريخ دولة ما بعد الاستقلال التي تم الاختلاف حتى حول مصطلح يطلق عليها، الحرب الأهلية، الإرهاب، العشرية الحمراء... وكانت فعلا "حرب بلا اسم"، لكنها بنتائج وخيمة. محمد ساري الذي اعترف بأن معظم الشخصيات والصور الموجودة في "القلاع المتآكلة" لديها جذور واقعية في الجزائر العميقة، قال إنه اختار "الأسرة" كخلية أساسية لرصد الظاهرة لأنه مقتنع بعدم جدوى إرجاع أسباب ما حدث في التسعينيات من وحشية وعنف إلى أيدٍ خارجية "لا يمكن لأي قوة مهما كانت تدمير عائلة من الداخل إلا إذا كانت متآكلة أصلا"، مؤكدا أن "السلطة تتحمل المسؤولية الأولى بصفتها المسير الأساسي للمجتمع"، خصوصا وأن روايته تفسح المجال عبر شخصياتها للعديد من الحساسيات الوطنية لسرد تفاصيل العنف السياسي الذي تعرضت له وولد لديها عنفا مضادا، وهذا لم يجعل ساري يتهرب من وجود مسؤولية اجتماعية مشتركة بين الجميع ساهمت في تفاقم ظاهرة العنف. عقدة رواية ساري لحظة تأزمها كانت تعتمد على البعد الوجودي والمحطات اللانهائية للعنف، حيث تطرح مفهوم فلسفة الموت (عندما تطلب الجماعات الإرهابية من نبيل قتل والده لإثبات ولائه للجماعة)، ولكن المعالجة التراجيدية لهذا الموقف تبرز البحث الحثيث الذي قام به ساري للإجابة عن سؤال الموت/ القتل الذي شغل الجزائريين طويلا، وهنا يقول الكاتب إنه استحضر عدة توجهات وجودية في تفسير ظاهرة العنف إن كان مع نظرة "فرويد" التي تؤكد على إرثنا البشري المأخوذ من الأب "قابيل" والذي يحولنا جميعا إلى أبناء قاتل، وإن كان مع وجهة نظر "فانون" للجزائري المتعلقة ب "العنف المترسب" والذي يأتي كرد فعل على قرن من الاستعمار، وقال الكاتب في صالون "إخوان الصفا" إنه "لابد من دراسة هذه الظاهرة الخطيرة التي تنعكس في سلوك الجزائري لفظيا وجسديا... وذلك لن يتم إلا إذا نظرنا إلى أنفسنا في المرآة بكل نزاهة". قال ساري في تقديمه لروايته، إنه رغم الاهتمام الكبير الذي أولاه للبحث في مضمون الرواية، إلا أنه اعتنى أيضا بالتقنية في هذا العمل الذي اشتغل عليه بشكل متقطع مدة سنتين، كما خصص ستة أشهر كاملة للتنقيح والاهتمام باللغة. ولم يغفل الجانب السردي للرواية أو أي من فنيات الرواية من مكان، صراع، شخصيات، واعتنى بشكل خاص بالمسار الفردي للشخصيات حتى لا يتحول الخطاب السردي إلى خطاب فلسفي أو تاريخي أو سياسي، فالرواية قواعدها المعتمدة على الحكي، فيما حملها الراوي السارد (المحامي). وفي الصياغ التقني دائما، أكد الكاتب أنه لا بد أن توفر أي رواية على أول مستوى "متعة القراءة" ولاحقا تأتي المستويات التأويلية.. فيما أكد الجامعي حميد علاوي، الذي قدم الرواية في الصالون كناقد انطباعي، أن عمل ساري عبارة عن تضافر لمجموعة من العقد الصغيرة التي تتكاثف لتصل إلى الحدث الكبير، حيث انطلق ساري بروايته من سؤال من هو قاتل "نبيل"؟ الذي يبدو سؤالا بسيطا في قصة بوليسية، لينتهي إلى إشكالية وجودية تتعلق بفلسفة الموت، عبر مجموعة من القصص الفردية لمختلف الشخصيات. وأشار الناقد إلى استفادة ساري من التقنية الجديدة التي باتت رائجة في كتابة الرواية عن طريق الوسائط، مثل المذكرات (التي استعملت في متن ساري عبر مذكرات نبيل)، وال sms وغيرها من الوسائط. في بداية تقديمه لرواية ساري، أشار الجامعي، حميد علاوي، إلى أنه لا يمكن تصنيف "القلاع المتآكلة" ضمن ما بات يعرف بالأدب الاستعجالي، وذلك حسبه، لأن الكاتب أخذ مسافة زمنية جيدة عن الحدث "الإرهاب"، لكن هذا التصنيف - الذي يقفز إلى الواجهة كلما تحدثنا عن عمل روائي متعلق بزمن التسعينيات والمأساة الوطنية التي مررنا بها- استولى على النقاش، حيث أكد معظم الحضور على عدم اقتناعه بهذا المصطلح الذي لا أساس أكاديمي أو عقلي له، وإنما هو مصطلح تم الترويج له في فترة معينة لمواجهة جيل جديد ومختلف من الكتاب. وفيما انخرط عدد من الكتاب الموجودين في النقاش، أكد ساري الذي كتب "الورم" في 1996 أنه لا يعتبر أن "هذا العمل كان أدبا استعجاليا"، مؤكدا أن الذين تكلموا عن هذا المصطلح "هم الرافضون للحديث عن الإرهاب، وقد يكون هذا خوفا من اتخاذ موقف لأسباب ذاتية أو إيديولوجية"، وعن تجربته "الانزلاق" التي كتبت في 1996 أيضا، قال الكاتب حميد عبد القادر إنها "كتبت على بعد تفاعل زمني معقول، تجاوز 6 سنوات، عن الحدث"، مؤكدا أن هناك الكثير من الأعمال التي كتبت في خضم الحروب لكنها كانت أصيلة واستطاعت الصمود أمام الزمن، مثل الأعمال التي كتبت أثناء الاحتلال النازي لفرنسا، رغم أنها كتبت بالوعي نفسه "مقاومة النازية"، ذلك لأن الكاتب في الأخير - حسبه - يعبر عن مأساته أو مأساة المحيطين به. وفي هذا الشأن، أكد صاحب "متاهات ليل الفتنة"، احميدة عياشي، أن الطرح الذي اعتبر مقياسا لأدب التسعينيات طرح أيضا حول ما كتب أثناء وبعد ثورة التحرير على اعتبار أن من يجب أن يكتب عن الثورة أشخاص لم يعيشوها أو على الأقل يكونون بعيدين عنها بمسافة زمنية كبيرة؟ وأرجع صاحب صالون "اخوان الصفا" بروز نقاش "الأدب الاستعجالي" إلى غياب الفضاءات التي يطرح فيها نقد بناء وعميق، لأن الساحة الثقافية النقدية تلعب دورا أساسيا في هذا الأمر، لذلك أصبح يتم الحكم على الرواية والروائي بناء على الموضوع، وهذا بسبب عدم تعميق النقاش بين النخب الذي أثر على خلق ديناميكية نقدية حقيقية. كما قال صاحب هوس إنه "لا بد من الاعتراف بغياب القراءات الجادة للإنتاج الأدبي والفكري وحتى البحثي، خاصة في العشرين سنة الأخيرة، حيث أصبح هذا الإنتاج يفوق بكثير القراءة النقدية وحتى الإعلامية".