ينهي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، جولته العاشرة في المنطقة (منذ توليه منصبه في فيفري 2013) بمحاولة تحقيق ضغط عربي رسمي على السلطة الفلسطينية، لتوقيع ما بات يعرف ب "اتفاق الإطار" مع الحكومة الإسرائيلية. فبعد جولة من اللقاءات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، توجه كيري إلى الأردن والسعودية قبل أن يلتقي في باريس وزراء الخارجية العرب لتأمين مناخ يسمح بتوقيع الاتفاق. وتحاول هذه الورقة إضاءة المساعي التي يبذلها كيري، وخصوصا في جولته الأخيرة لحشد الدعم من أجل توقيع "اتفاق الإطار" الذي يروِّج له، مستفيدا من الأوضاع الإقليمية المحيطة. كما تسعى الورقة أيضا للوقوف على التبعات والمسؤوليات المترتبة على مختلف الأطراف في حال التوصل إلى الاتفاق المأمول أمريكيا. الرؤية الأمريكية لاتفاق الإطار ظهرت فكرة "اتفاق الإطار" أول مرة في خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام معهد سابان في واشنطن في بداية ديسمبر 2013، إذ قال: "أعتقد أنه من الممكن خلال الأشهر القليلة المقبلة التوصل إلى اتفاق إطار لا يتناول كل التفاصيل، ولكنه يوصلنا إلى نقطة يعترف بها الجميع [...] وأعتقد أننا الآن في مكان حيث يمكننا تحقيق حل للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، بحيث يعيشون جنبا إلى جنب في سلام وأمن، لكن ذلك سيحتاج إلى بعض القرارات الصعبة جدا". وقد فُهم من ذلك أن الإطار العريض للاتفاق سوف يشمل الدعوة إلى إنشاء دولة فلسطينية، مع الاتفاق على تبادل لأراضٍ، واعتراف الفلسطينيين بإسرائيل ك "وطن قومي للشعب اليهودي". وترى الإدارة الأمريكية أن الأوضاع الإقليمية اليوم مهيأة لإبرام اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وقد عبر عن هذا الموقف رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية الجنرال مارتن ديمبسي، حين أشار إلى أن "الاضطرابات" الجارية في جميع أنحاء العالم العربي تخلق ما سماه "فرصة استراتيجية لإسرائيل"، فليس هناك دولة في الوقت الراهن يمكن أن تهدد أمن إسرائيل، كما كان الحال قبل عشر سنوات. كما أن حالة الضعف العربي تسمح لإسرائيل بإبرام اتفاق سلام - تعزز من خلاله مكاسبها في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، وتعاظم قوتها إقليميا. ثم إن التقارب الأمريكي الإيراني الراهن يدفع إلى هذا الاتجاه أيضا، إذ أشار الوزير كيري إلى أن "إسرائيل ستصبح أكثر أمنا بتنفيذ الاتفاق بشأن برنامج إيران النووي". فمن الواضح إذن أن الرغبة الأمريكية في تحقيق اتفاق سلام قائمة على الالتزام الصارم بأمْن إسرائيل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما يجري إنما يتم في إطار ترتيبات تسعى إليها واشنطن في المنطقة تزامنا مع انكفائها عنها، وتركيز اهتمامها على الشرق الأقصى. بدأ كيري جهده لاستئناف المفاوضات على مستويين أحدهما اقتصادي والآخر أمني، وكلاهما يقود في النهاية إلى اتفاق سياسي. ففي ماي 2013 تحدَّث الوزير كيري في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد في مدينة الشونة الأردنية المحاذية للبحر الميت عن استقطاب استثمارات تبلغ قيمتها أربعة ملايير دولار بغية توسيع الاقتصاد الفلسطيني بنسبة 50 في المئة في غضون ثلاث سنوات. كما ربط الشق الاقتصادي بمشروع اتفاق سياسي يؤدي إلى زوال السيطرة الإسرائيلية تدريجيا. وفي المستوى الأمني تشمل الخطة التي طورها الجنرال الأمريكي جون آلن اتفاقا على وجود الجيش الإسرائيلي على طول نهر الأردن مدة تتراوح بين أربعٍ وعشرِ سنواتٍ، وتكون المعابر الحدودية على نهر الأردن بإدارة مشتركة بين الطرفين مع تمثيل أمريكي. كما تتضمن الخطة إخلاء الضفة الغربية من الجيش الإسرائيلي ماعدا الأغوار. وتعدُّ الخطة الأمنية الأمريكية إعادة تكريس لنموذج غزة في الضفة، إذ تبقى السيطرة الأساسية على الحدود والمعابر والمجال الجوي في يد إسرائيل، وتكتفي السلطة الفلسطينية بدولة منزوعة السلاح. وأما المساعدات الأمريكية الأمنية للسلطة الفلسطينية فهي تقتصر على بناء القدرات الفلسطينية من خلال تزويدها بأسلحة خفيفة تساهم في ضبط الأمن الداخلي. ولئن لم تعترض السلطة الفلسطينية على الشق الاقتصادي من الخطة التي طرحها كيري، فإنها رفضت الشق الأمني منها، وخصوصا فكرة الوجود الإسرائيلي في غور الأردن. وبالمثل، رفضت جامعة الدولة العربية هذه المقترحات عادة إياها تراجعا عن الموقف الأمريكي الداعم لعملية السلام. وأبدى نتانياهو تحفظات على الخطة، معتبرا أن إسرائيل ستكون صاحبة القرار في ما يتعلق بالقضايا الأمنية، ولن تقبل بإملاءات. في هذا السياق، عاد كيري إلى المنطقة مع بداية العام الجديد يحمل معه المبادرة السياسية التي سميت "اتفاق الإطار" وحددت القضايا الأساسية التي يتناولها، وهي: حدود الدولة الفلسطينية، مصير القدس واللاجئين، مسائل الأمن والاعتراف المتبادل ما يضع الخطوط العريضة للمفاوضات. ولا بد في هذا السياق من التذكير بأن اتفاق الإطار بمنزلة مبادئ توجه المفاوضات إلى التفاصيل، وأنه ليس خطة للتنفيذ، أي إنه لا بد أن تتبعه مفاوضات. وإن فشلت المفاوضات في تطبيق هذه المبادئ و/أو تعثرت، كما حصل مع أوسلو لأن إسرائيل تتحكم بتفسير المبادئ وتنفيذ البنود، تكون السلطة بقبولها اتفاق الإطار قد خاضت في جولة جديدة من التنازلات من دون تحقيق ما أملت تحقيقه. إمكانية توقيع اتفاق إطار على الرغم من إعلان السلطة أن ما تتداوله وسائل الإعلام بشأن بنود اتفاق الإطار لا يعدو أن يكون مقترحاتٍ أولية، فإن التسريبات تقول إن خطة "اتفاق الإطار" المقدمة للجانب الفلسطيني والإسرائيلي والأردني، تنص على ضم إسرائيل 6.8 في المئة من أراضي الضفة الغربية، مقابل إعادة 5.5 في المئة من الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، مع إخلاء كل المستوطنات في الأغوار، ونشر قوات أمريكية على طول الحدود مع الأردن، وإنشاء معابر وممار بين الأردنوفلسطين برقابة أمريكية، وتجميع 80 في المئة من المستوطنين في كتل استيطانية إسرائيلية بعد إخلاء 20 في المئة من الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية. ويفترض أن تنص الخطة أيضا على ممر آمن سريع بين غزة والضفة، وعلى وضع ما يسمى "الحوض المقدس" (يشمل الأماكن المقدسة داخل القدس) تحت إشراف لجنة دولية تتكون من إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والأردن، والولايات المتحدةالأمريكية، والسعودية. أما بالنسبة إلى اللاجئين فإن المقترح يتحدث عن "لم شمل" لبعض اللاجئين داخل إسرائيل، وإنشاء صندوق دولي للتوطين، وفتح باب للهجرة إلى أستراليا وكندا، مع مواصلة العمل بنظام الجمارك الحالي وفق اتفاقية باريس. ومن الواضح أن موضع السجال والخلاف المعلن حتى الآن يتعلق بإصرار نتانياهو على اعتراف السلطة الفلسطينية ب "يهودية الدولة" بوصفه شرطا أساسيا للبحث في اتفاق الإطار، ورفضٍ قاطعٍ لعودة أي لاجئين فلسطينيين، مع رفضٍ لأي مقترح للتسوية في القدس. وهذه المسألة تحديدا هي ما يُهدِّد انقضاء المهل الزمنية المقترحة للوصول إلى اتفاق، من دون تحقيق أي تقدم. ولقطع الطريق على أيّ مقترح بهذا الخصوص، بادرت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع في الكنيست الإسرائيلي إلى مصادقة مشروع قرار يمنع التفاوض بشأن وضع القدس إلا بموافقة 80 من أصل 120 نائب في الكنيست. وفي المقابل ترفض السلطة الفلسطينية الاعتراف بيهودية الدولة، كما ترفض إبقاء القدس خارج الاتفاق، وهذا ما أكده الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ذلك أن السلام لا يمكن أن يتحقق من دون إعلان القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين على كامل الحدود المحتلة سنة 1967 التي تقسم القدس إلى شرقية وغربية. وتحسبا لأيّ ضغوط أمريكية يمكن أن تمارس على العرب للاعتراف بيهودية إسرائيل، استبق وزراء الخارجية العرب اجتماعهم مع كيري في باريس، يوم 12 ديسمبر 2014، بتأكيد مفاده أن مبادرة السلام العربية تشكل إطارا وحيدا ومحددا لأي اتفاق مقبل. مأزق المهل التفاوضية في ظل الصعوبات التي يواجهها لتسويق مقترحاته، لمَّح كيري الساعي وراء المكانة والمجد الشخصي عبر إنجاح المفاوضات إلى أن بلاده ستخفف وتيرة جهدها الهادف إلى التوصّل إلى اتفاق إن لم يجْرِ الاتفاق بشأن خطة الإطار قبل نهاية مارس. ويظهر من وتيرة اللقاءات والتسريبات أنه على الرغم من إصرار كيري على توقيع اتفاق الإطار، فإنّ صيغة هذا الإطار تبقى مهددة ما لم يرتبط الجهد الدبلوماسي الأمريكي بضغوط حقيقية على إسرائيل لإيقاف المشاريع الاستيطانية، وكل الإجراءات الرامية إلى تغيير الوقائع على الأرض مثل ضم الأغوار قبل التوصُّل إلى أي اتفاق نهائي. بالمثل تجد السلطة الفلسطينية نفسها اليوم في مأزق كبير، فهي تنتظر المرحلة الرابعة من الإفراج عن الأسرى خلال المفاوضات. ولئن أكدت على لسان رئيسها عباس أن تمديد المهلة الزمنية للمفاوضات (9 أشهر) غير مقبول، وأن السلطة ستجد نفسها في حِلٍّ من أمرها بعد انقضاء هذه المدة، فإنها تجد نفسها غير قادرة على قبول خطة كيري أو رفضها، ذلك أنه ثمّة محاذير داخلية وخارجية ستترتب على أي قرار بهذا الشأن. ففي حالة موافقة السلطة الفلسطينية سيضعها ذلك في حالة تعارض مع مواقف أغلب مكونات المجتمع الفلسطيني من أحزاب وقوى ومؤسسات مجتمع مدني بالنظر إلى أن هذا الاتفاق يمثل تنازلًا عن الحقوق والثوابت الوطنية. أما في حالة رفضها للاتفاق فإنها ستكون معرضة لضغوط شديدة نتيجة تهديد كل من الاتحاد الأوروبي - المانح الأكبر للسلطة الفلسطينية - والولايات المتحدةالأمريكية، وذلك بوقْف مساعداتهما إياها. أما إسرائيل وحكومة نتانياهو بالتحديد فهما تشهدان ضغوطًا داخليةً عليها من داخل الائتلاف الحكومي، إذ لوَّح كلّ من تسيبي ليفني ويائير لابيد بالانسحاب من الائتلاف في حال عدم التوصل إلى اتفاق، وأشارت ليفني إلى ما سمته "بالفقاعة" التي ستنفجر وتعرِّض إسرائيل إلى خطر العزلة الدولية والعقوبات في حال لجوء السلطة الفلسطينية إلى الأممالمتحدة إذا استمر الاستيطان وضم الأراضي، فضلًا عن أنّ إسرائيل مُعرَّضة أيضًا لعقوبات اقتصادية من الاتحاد الأوروبي في حال فشل التوصُّل إلى اتفاق. وقد عبَّر عن هذا المأزق مسؤول أمريكي بقوله: "إنّ رفْض عباس مبادرةَ كيري يمكن أن يسبِّب ضررًا لكلّ المشروع الوطني الفلسطيني لا يمكن إصلاحه. في حين أنّ رفْضه من جهة نتانياهو من شأنه أن يسبب ضررا بالغا لمكانة إسرائيل واقتصادها دوليّا". وتشير هذه التصريحات إلى تخوُّف من وضْعٍ تجد إسرائيل فيه نفسها من دون مفاوضات في مواجهة وضْع جديد تتعالى فيه الأصوات الدولية الداعية إلى مقاطعتها. ضمن هذه المعطيات، وفي ظلّ المواقف المعلنة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي التي تُظهر أنّ الاستعصاء مازال قائمًا في القضايا التي عطَّلت المفاوضات طوال الفترة الماضية، تخبو حماسة كيري في التوصل إلى اتفاق وتصحيح مسار تراجع الدور الأمريكي في المنطقة في مرحلة الثورات العربية، وتحقيق أمجاد شخصية ولو كان ذلك على حساب مصير الفلسطينيين ومستقبلهم. لكنّ كيري، على الأرجح، لن يمتلك الجرأة للإقرار بالفشل، لذلك سوف يعمد إلى العودة إلى المقاربة الأمريكية التقليدية القائمة على استمرار عملية السلام من دون التوصُّل إلى السلام، واستمرار التفاوض من دون التوصُّل إلى اتفاق. وهو توجه نشهده منذ اتفاقيات أوسلو التي تفاوض لكي تكون هنالك مفاوضات، ف "عملية السلام" تبرِّر ذاتها بذاتها ولا تقود إلى هدف واضح. وهو نمط من التفكير يقوم على تجاهل الوقائع على الأرض، وتجاهل المتغيرات الإقليمية أيضا. عزمي بشارة* المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات