يبدأ البرتغالي، مانويل دي أوليفيرا، عميد السينمائيين في العالم، الذي احتفل في ديسمبر بعيد ميلاده الخامس بعد المئة، تصوير فيلم قصير جديد في بورتو مسقط رأسه في شمال البرتغال. وقالت ابنة المخرج أديلاييد ماريا تريبا: "حصل أخيرًا على التمويل الذي كان ينتظره منذ أشهر عدة". وأوضحت شركة الإنتاج البرتغالية "او سوم ايه آ فوريا" التي تُشارك في إنتاج الفيلم مع الشركة الفرنسية "ابيسنتر فيلمز" أن الفيلم القصير سيصوّر هذا الشهر، ويُشكّل هذا الفيلم عودة للمخرج البرتغالي إلى مسقطه حيث كانت بداياته في الثلاثينيات مع الوثائقي "دورو مشروع نهري" عن نشاطات سكّان ضفتي نهر دورو. والفيلم الجديد بعنوان "ريستيليو القديم" ومستوحى من شخصية في قصيدة ملحميّة كتبها في القرن السادس عشر لويس دي كامويش ليروي فيها الاكتشافات البحرية الكبيرة للبحارة البرتغاليين. وتأخر المشروع في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها السينما البرتغالية التي تُعاني كثيرًا الاقتطاع في الميزانية من الحكومة لتلبية شروط الأطراف الدائنة الدولية. وبُمناسبة عيد ميلاده الخامس بعد المئة أعرب دي أوليفيرا عن ثقته بالحصول على مبلغ 350 ألف أورو الضروري للتصوير. ويرفض المخرج التقاعد رغم إدخاله المستشفى مرات عدة في 2012 بسبب مضاعفات أتت بعد إصابته بالتهاب. ولد المخرج وكاتب السيناريو أوليفيرا 11 ديسمبر 1908. وبدأ صنع أول أفلامه في عام 1927، عندما كان مع بعض الأصدقاء يحاولون تقديم فيلم عن الحرب العالمية الأولى. في عام 1931 أكمل فيلمه الأول، دورو مشروع نهري، وهو وثائقي عن مدينته بورتو سيدوفيتا، ليتوقف بعده. من بين العوامل العديدة التي حالت دون أن يصنع أوليفيرا المزيد من الأفلام خلال هذه الفترة الزمنية كانت الأوضاع السياسية في البرتغال، والالتزامات العائلية والمالية. بعد خمسة عشر عاما من محاولته الأولى، قدم أوليفيرا فيلمه الروائي الطويل"أنيكي بوبو" عام 1942. هو صورة عن أطفال الشوارع في بورتو، مبني على قصة قصيرة كتبها رودريغو دي فريتاس. يركز أوليفيرا القصة حول اثنين من الصبية الصغار الذين يتنافسون للفت انتباه فتاة صغيرة. واحد من الأولاد فتي ومنفتح على الخارج، في حين أن الآخر خجول وبريء. في عام 1971 قدم أوليفيرا "الولايه الثانية" وهو فيلم روائي يتضمن هجاء اجتماعيا عبر سرد بين الماضي والحاضر، وفيه حدد معايير لمشواره السينمائي القادم، وحصل عبره على اعتراف في مجتمع السينما العالمي. واصل صنع الأفلام عبر طموح إبداعي متصاعد ومن عام 1970م إلى عام 1980م، كسب إشادة من النقاد والعديد من الجوائز بجميع أنحاء العالم. منذ أواخر 1980 صار واحدا من أغزر المخرجين عملا وواصل تقديم ما معدله فيلم واحد بالعام وبعد تجاوزه سن المائة في مارس 2008 صار أقدم المخرجين نشاطا في العالم، وربما هو ثالث أقدم مخرج في كل الأزمنة بعد جورج ابوت، الذي عاش لعمر 107، والمخرج السينمائي الإسباني ميغيل مورايتا، الذي توفي عن عمر 105، وهو أيضا المخرج الوحيد الذي بقي نشطا بمهنته وقد امتد من عصر الفيلم الصامت إلى العصر الرقمي. ومنذ فيلمه الأول في العام 1931، صوّر دي أوليفيرا أكثر من خمسين فيلمًا طويلاً روائيًا ووثائقيًا مُنجزًا الجزء الأكبر من أعماله بعد سن الستين. في عام 1990 قدم أوليفيرا "المجد الباطل"، بطولة لويس ميغيل سينترا، ديوغو دوريا ويونور سيلفيرا. الفيلم يصور التاريخ العسكري في البرتغال، مع التركيز على هزائمه أكثر من انتصاراته. العمل التاريخي يشمل اغتيال فيرياذوس، ومعركة تورو، وحرب المستعمرات البرتغالية. والاستثناء الوحيد في سير الأحداث هو تركيزه تصويره على جزيرة أسطورية فيها يحتفل المستكشفون البرتغاليين بالحب، وليس على الشخصيات العسكرية. بدأت أصداء سينما أوليفيرا تتخطى حدودها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي مع تلوين طاقم ممثليه البرتغالي الصرف بأسماء من عالم السينما العالمية الفنية بشكل خاص من أمثال مارتشيللو ماستروياني وكاترين دونوف وميشال بيكولي وجون مالكوفيتش. ولكن أفلامه المتجذّرة في التاريخ والفلسفة والدين وحول التراث وثقافة البرتغاليين لم تتنازل مرة لحسابات السوق. بالنسبة إلى الجمهور، تتأتى صعوبة أوليفيرا من تمحور عمله السينمائي عموماً. بعض أفلامه مستقى من مصادر أدبية عالمية: بعض مراجعه الأدبية تشمل فلوبير ويونيسكو وبيكيت ودوستويفسكي. فيلمه الوثائقي-الدرامي "يوم اليأس" (1992) عن حياة الكاتب كاميلو كاستيللو برانكو الذي عاش في القرن التاسع عشر وأعماله. وفي عام 2000 قدم أوليفيرا الفيلم كلمة ويوتوبيا، وهو سيرة البرتغالي الكاهن اليسوعي بادري أنطونيو فييرا بناء على الرسائل والخطب التي كتبها الكاهن بين 1626 و1695. «العاشق المحبط" أول فيلم لأوليفيرا من رباعية الحب المكبوت. تبعه بأفلام العذراء الأم، الحب منكوب، وفرانسيسكا. كل من هذه الأفلام تشترك في موضوع الحب الذي لم يتحقق، على خلفية مجتمع قمعي، وتشكل بداية نمط سينمائية فريد من نوعه خاص به. ويتأمل فيلمه "صورة متكلّمة" 2003 في مصير الثقافة الغربية بعد 11 (سبتمبر) ويتضمن حوارات بالفرنسية والإنكليزية والإيطالية واليونانية والبرتغالية. وهو من بطولة ليونور سيلفيرا، فيليبا دي ألميدا، كاترين دونوف، جون مالكوفيتش، ايرين باباس. في الفيلم سيلفيرا يأخذ ابنته الصغيرة (الميدا) على متن سفينة سياحية إلى بومباي تلبية لطلب عائلة والدتها، ويحدثها عن تاريخ الأماكن التي يمران بها طول الطريق. وتشمل هذه المشاهد أماكن مثل سبتة، مرسيليا، أثينا، نابولي وبومباي. كما يلتقيان ويتعرفان على ثلاث نساء ناجحات ويجريان محادثات طويلة مع قبطان السفينة (مالكوفيتش)، تتضمن في كثير من الأحيان إشكاليات الصراعات بين المسيحية والإسلام. ويسجّل دي أوليفييرا في"من المرئي إلى اللامرئي" عام 2008 التغريب الذي مارسه التطور العلمي والحضاري على البشر، إذ تحول التكنولوجيا الحديثة، دون التواصل، حيث بدلاً من التقريب بين الناس تُباعد التكنولوجيا في ما بينهم. وعلى هذا النحو نشاهد كيف يضطر حصار الهواتف النقّالة صديقين من فئتين عمريتين مختلفتين إلى استخدام الهاتف النقّال للتحدث، فيما يقفان في الشارع أحدهما بمواجهة الآخر. إنهما ينظران إلى بعضهما بعضاً، لكن من دون أن يتمكّن أحدهما من رؤية الآخر. لقد انتقلنا من عالم المرئي إلى اللامرئي. وقبل عامين قدم فيلمه "جيبو والظل"، يقتبس مانويل دي أوليفيرا، في فيلمه ال 59 هذا مسرحية راؤول برانداو عن مسنّ فرنسي يضحي بنفسه لحماية ابنه اللص.. وعنه يقول: "أتعرفون لماذا صنعت هذا الفيلم؟ صنعته لأنني قابلت شخصاً قال لي إنه يحب أفلامي وسألني لماذا لم أصنع فيلما عن الفقر والفقراء. قلت لنفسي إن هذا ليس سهلاً. إن كان فيلما وثائقيا فإنه سيكون أسهل لأننا نستطيع اختيار حالة معينة. لكن تذكرت من بعد كتاب الكاتب راؤول برانداو الذي يتحدث عن رجل عاش ومات فقيراً ولكن بكرامة. هذا هو الفيلم. إنه فيلم لجميع الأزمان، لليوم والأمس." يواصل أوليفيرا حتى اليوم إنتاج الأفلام وآخر أفلامه الطويلة "حالة انجليك الغريبة" عرض في ماي الماضي في مهرجان "كانّ" السينمائي. وهو يفكر بقضايا العالم، ولكنّ أفلامه بعيدة من التداول، وتكاد فرص مشاهدتها خارج المهرجانات تكون مستحيلة.