الموهبة قد تكون هي العامل المشترك بين الوظيفة و المهنة ذلك أن الوظيفة (fonction) و إن كان يطبعها الروتين و التكرار فإنها تحتاج أيضا إلى أنواع من المواهب مثل تلك الشروط التي نجدها في إعلانات التوظيف كروح المبادرة و التنظيم (esprit d'initiative et d'organisation) و القدرة على العمل في أوساط أجنبية (en milieu multinational) و غيرها. كما أن الوظيفة تتميز بأن لها شروط صارمة جدا كتلك التي تضعها في الجزائر المديرية العامة للوظيف العمومي أو تلك الشروط التي تضعها شركات و مؤسسات القطاع الاقتصادي في الاتفاقيات الجماعية التي تسيرها و قد يكفي فيها التوظيف على أساس الشهادة (concours sur titre) لو أن الجامعة تقوم بدورها على أكمل وجه و تخرج إطارات بمعنى الكلمة. أما المعيار الفارق في المقارنة بين الوظيفة و المهنة (profession) فهو أن هذه الأخيرة تكتسب المهارة فيها بالممارسة (la pratique) أي كلما زادت خبرة الممارس في المجال تفتحت مداركه أكثر في الميدان و قد يصل المهني إلى درجة الإبداع (la créativité) مع الوقت بأن يقدم هو إضافات جديدة للمهنة التي مارسها بكل حب و إقبال مثلما قدمت له هي النجاح و التألق. إن كل المهن مهما كانت تحتاج إلى الممارسة و بعيدا عن هذا العامل فان الشهادات و الدبلومات (les titres) تبقى مجرد شروط في النهاية ... و الذين مروا بمرحلة الخدمة الوطنية في الجيش يعرفون ذلك جيدا لأنه يقال"la fonction prime le grade" بمعنى "الوظيفة أعلى من الرتبة" ... و الأكيد أن أي شخص مغرور بشهادته لو اجتاز مرحلة "الخدمة الوطنية" لعرف جيدا قيمة الدبلوم و قيمة الميدان و لعرف أيضا معنى مصطلح (DZ) في أوساط الجنود داخل الثكنة !! و الآن ماذا لو نظرنا إلى بعض المهن الممارسة و كيف صار حالها اليوم في الجلفة: مهنة الصيدلة ... لو دخلت أغلب الصيدليات فلن تجد الصيدلي بل ستجد بائعا يصرف لك الدواء و يستبدل ما كتبه الطبيب حسبما هو متوفر في دكانه: يعطيك الدواء الجنيس (générique) إذا لم يجد الأصلي و يعطيك الأصلي (princeps) إذا لم يتوفر الجنيس على الرفوف .. بل و شاهدت مرة بأم عيني بائعا يعاتب طبيبا عاما لأنه كتب دواء معينا عوضا عن آخر ... كلاهما ممارسان. مهنة الطبيب ... يكفينا المثل القائل "سقسي المجرب و ما تسقسيش الطبيب" ... لأن المجرب ممارس. مهنة المحامي ... إذا أردت استشارة قانونية و رغبة في معرفة ما ستؤول إليه قضيتك و ما يدور بفؤاد القاضي ... فاسأل شخصا "طايب في لحباس". مهنة المترجم ... بدون أن نبخس الحاج "قوقل" صاحب الكرامات العظيمة في الترجمة رغم سوء التركيب ... فانه يوجد في الجلفة مترجم رغم انه ليس رسميا و ليس معتمدا و هو شيخ متقاعد من قطاع التعليم و ما شاء الله على ترجمته، و لا ننسى هنا الإعلامي (مع كامل التحفظ على كلمة إعلامي التي حددت شروطها في مرسوم ملكي) الأستاذ مسعودي.ب عضو جمعية المترجمين العرب بواشنطن. مهنة الأستاذ ... أتذكر هنا جيدا ما قاله لي صديق يدرس الاجتماعيات في الثانوي " سوف أملي على التلاميذ الدرس و اخرج... لن اكسر راسي" ... ربما احد أسباب نتائج الباكالوريا في الجلفة هو أن الأساتذة جعلوا مهنة التعليم وظيفة روتينية ... و هذا موضوع قادم بالتفصيل إن شاء الله !! هذه أمثلة قليلة عن حال بعض المهن ... و الآن ما هي المهنة المشتركة و التي يستطيع أن يمارسها كل من يملك الموهبة ... بشرط الموهبة ... الأكيد أنها مهنة الصحافة ... لأن الطبيب يستطيع أن يكتب مقالات صحفية عن الصحة ... و لأن الصيدلي يستطيع أن يكتب في ميدانه و الأستاذ و المحامي و المهندس و القاضي كذلك فقط أن يعرفوا الفرق بين الروبرتاج و التحقيق و الخبر (و طرق سرده كالهرم المقلوب أو التدرج الزمني للأحداث أو المزج بينهما) التعليق و المقالة و العمود و الإفتتاحية ... ببساطة الإلمام بكل الأنواع الصحفية ... و الصحفي ليس مجبرا على أن يكون حاملا لشهادة في الإختصاص و القضية مطروحة للنقاش في موضع آخر. نتساءل الآن لماذا نرى بعض الوسائل الإعلامية تتسول الإشهار و تكثر من برامج الردم الجاهزة كالأغاني و المقاطع الموسيقية و غيرها ... الجواب و الله اعلم هو أن الكثير يرى فيها نوعا من الضعف و منبرا للمجاملات أمام المتلقي و وسيلة لتبرير تقصير المسؤولين في مهامهم عندما تراهم يقولون "قمنا ... اعددنا ... بادرنا إلى ... شاركنا في ... أنجزنا" و غيرها من ألفاظ لغة الخشب الشائعة في أيامنا هاته. إن هاته الوسائل الإعلامية لا تمارس ضغطا على ذوي النفوس اللئيمة و بالتالي فان المعلن يرى أنها لن تمارس التأثير الذي يريد من خلاله الترويج لسلعته و منتوجه ... كما أن ذات المنتج يرى بأن سلعته مضمونة الرواج بمنطق السوق الاستهلاكي الذي يأتي في المرتبة الرابعة وطنيا من حيث الضخامة ... كما أن الكثير من المنتجين في الجلفة مازالوا ينظرون إلى المستهلك على أنه جاهل و مستهلك سلبي لا يهم إقناعه بجودة المنتوج عن طريق شموع المجتمع و هم الإعلاميون ... و هكذا سوف تبقى هذه الوسائل الإعلامية تتسول الإشهار إلى يوم يبعثون !! الفايدة و الحاصول ...المشكل يكمن في أن مهنة الإعلامي بديناميكيتها و حيويتها و جرأتها حوّلها بعض المنتسبين إليها (و لو كانوا من أصحاب الشهادات في الاختصاص) إلى مجرد وظيفة يطبعها الروتين و "التبلعيط" على المباشر !!