دعاة أم جناة كلما وجدت فراغا حاولت أن استثمره في ما يعود علي بالفائدة , و التلفزيون هو الأقرب إلى بعد الكتاب , و لأن مفضلتي التلفزيونية لا تحتوي إلا على القنوات الدينية, فتجدني أتنقل من قناة إلى أخرى , و أرحل من الشيخ الفلاني إلى الشيخ العلاني . لا أخفيكم فقد ضقت ذرعا بوضعي و وضع هؤلاء المشايخ بل و ما يسمى بالقنوات الدينية أصلا . فالمتابع لهم من أمثالي سيصاب حتما بالتخمة ثم يعود و لا فائدة معه لكثرة ما سمع و لكثرة ما تغيرت عليه الوجوه , أما المشايخ فهم عن قصد أو غير قصد يعلموننا الكسل و ينقلون إلينا داء القيل و القال بصراحة سئمت هؤلاء . بل لا أراهم إلا ممن يضر الأمة و لا ينفعها و ممن يزيد في تأخرها أكثر مما هي عليه . هؤلاء الذين استمروا الجلوس وراء الكاميرات و أضحوا نجوما أكثر شهرة من نجوم التمثيل و الغناء , و قد تسمع عن بعضهم أنهم يعدون في مصاف المليونيرات , لا هم لهم إلا أن يتكلموا ,و أن يعيدوا المعاد , و في كل موسم يخترعون سلاسلا تبقيهم أمام العداسات , في كثير من الأحيان أتسال إن كان هؤلاء راجعوا أنفسهم يوما فلعلهم أكثروا على الناس بالكلام. ولا أعتقد أنهم فعلوا . لأنهم على الحقيقة يتاجرون ببعض العلم الذي اكتسبوه , و ربما ببعض حسن القول الذي يسحرون به الخلق . و ليعلم القارئ أني لا أرمي الكل في سلة واحدة و إنما اقصد طفيليات الأقمار الصناعية الذين يسمون بالدعاة . الغريب أنهم لم يراجعوا أساليبهم في الدعوة إلى الله و لا طابقوها على ما كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بل صاروا دعاة فتنة و تقتيل , يحملون الناس ممن جهل أو خف عقله أو ممن أخذته الحماسة و سارع في الفتنة على الخوض حتى الذقن في دماء المسلمين , و يسمون من مات بالشهيد كأنهم اتخذوا عند الله عهدا أو كانت لهم من الله براءة ليقول ما يريدون و ليفعلوا ما يرونهم في عرفهم حسن و قد نسوا أن الشهيد الحق من شهد له الله أو الرسول صلى الله عليه و سلم , و إن تعجب فالعجب في تخطيهم النصوص الواضحة الصريحة يؤولونها على حسب ما انتموا إليه من الفرقة أو الجماعة أو الحزب , فترى ألإخواني يقدس إخوانيته و السلفي يغالي في سلفيته و كذا الصوفي و غيرهم ممن باع دينه بانتماء لا يملك عليه سلطنا و لا يقيم له دليلا اللهم الهوى و الكبر , ثم ما تلبث أن ترى هذا يعادي ذاك , و يشن عليه الغارات , و يرسل عليه الصواعق , فرحا نشوانا بما فعل و هم في هذا يملأون الدنيا صيحا و عويلا لا يغني من الحق شيئا , قد اتخذوا لأنفسهم أديانا يدعون لها و يحسبون أنهم على شيء و قد نسوا أن الدين عند الله الإسلام , الإسلام و فقط قال العلي الحكيم : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران:85] . و الخشية أن يكون كالذين قال فيه الله تعالى : "...مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" . على كل حال فنحن نرصد هنا مدى الضرر الذي يلحق بالمشاهد من هذا الأسلوب الذي ينتهجه الدعاة , فهم بكثرة قنواتهم و بكثرة كلامهم سيقللون من القدرة على الفعل , و يختصرون الحياة اليومية في الاستماع و من ثمة التكرار في المجالس على نحو قال الشيخ عمرو ,و العلامة زيد . و بالتالي الجدل العقيم الذي لا يعود يخير اللهم الخصومة و التنافر , و بقليل من التبصر و الملاحظة تجد أن لا فائدة لهؤلاء الدعاة فالوضع العربي الإسلامي و العربي على حاله بل قد نزل الدركات , لا النفوس استقامت على أمر ربها , و لا العقول خرجت من تيهها و بلادتها , ولا القلوب تحررت من درنها و غشاوتها , كثر الحديث و كثرت الهمهمة و ما استقام من أمرنا شيء . ماذا يريدون منا ؟ السؤال الذي يواجهنا الآن و الذي من المفروض أن يواجه الداعية به نفسه ماذا يريد من الناس , هل حدد لنفسه هدفا و رسم لسيره خطة و استشرف المعوقات التي قد تصده عن إكمال ما بدأه و خطط له ؟ أم هو ضرب عشواء و رمية من غير رام , و مقاربة و لا تسديد , و الداهية أن ي يبدأ داعية و ينتهي نجما لا هم له إلا يصنع لنفسه اسما و لشخصه حضورا و لو كان هذا على حساب دينه و أخلاقه بل و على حساب من استمع إليه و استمرأ قوله ... لو دخلنا عقل الداعية المخلص أو قلبه فإن لا نجد فيه إلا دين الله لأنه الغاية التي يدعو إليه و الهدف الذي يحاول أن يجمع عليه الناس , الداعية خليفة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم , في هذا و الرسول كان عليه البلاغ " ..فهل على الرسل الا البلاغ المبين " إما بشارة أو نذارة و لا يكره الناس على أمر " ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " و لا يحملهم ما لا طاقة لهم به إنما هو تيسر و رحمة " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"" , و الرسول في أمره هذا قدوة " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا" " لذا وجب على الداعية المحترم أن يستخلص القدوة و يستجلب المثال من الرسول لا يعدوه إلى غيره إلا من أمره الرسول بالأخذ عنهم "... فعليكم بما عرفتم من سنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي" . هذا ما يجب أن يكون عليه الداعي إلى ربه , لان الرسول صلى الله عليه و سلم كان على هذا , و هم لا يسعهم أن يطلبوا منا إلا ما طلبه منا الرسول , و لكننا نرى العجب من هؤلاء فالسلفي يريد أن يحمل الناس على أن يكونوا كلهم طلبة العلم الشرعي و كأن العلوم الأخرى غير شرعية , و لا اعرف أي منطق يتعلقون به فيطلبون الطاعة فيما لا يستطاع بل أن القرآن نفسه يكذب هذا السعي منهم و يفند التفكير الأعوج يقول الله " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" , لا هم لهم إلا الجدال و المراء , قد نصبوا أنفسهم أوصياء على الناس , كالذي أيقن بنجاته و أطمئن لها و غيره هالك إنه عصاه أو خالفه في أمر , قد غرهم سنة ظاهرة أقاموها , و لباس شهرة مشوا به بين الناس , لا يرون في من خلفهم إلا الضلالة و الكفر فحسبنا الله و نعم الوكيل في قوم هدموا الدين من حيث يريدون إقامتة , بل هي كلمة تركها شكيب ارسلان حين قال " ضاع الدين بين جاحد و جامد ". أما ألإخواني فتجده يجد في أن يجعل من الناس مجاهدين يتقحم به الأهوال , وليته تقحم الأعداء و لكنه في أخ الملة و شريك الدين و لو أن ألإخواني عاد لمؤسس الحركة التي ينمي لها لوجد الأمر على غير هذا فالأستاذ حسن البنا رحمه الله كان مثالا يحتذى في الدعوة و علما يتبع في التبليغ و لكن طال الأمد فقست القلوب و تنكرت العقول , و فوق هذا يصدرون فكرهم و وينشرون ما هم عليه إلى غيرهم يحاولون بسط السيطرة , و يحملون الناس على أن تكون تبعا لهم , يسترشدون برأيهم لا يحيدون عليه قيد الأنملة , و إلا عدوه من المارقة . أما الصوفي فتراه يتعلق بتهويمات و تخريفات لا طائل منها , و يصنع لنفسه الأقطاب و الأوتاد فلا ينتهي به الأمر إلا و هو كالميت في يد الغسال . يرفع لنفسه النصب الخبيثة ليجعلها وساطة بينه و بين الله , وكأنها كنسية جديدة و بابوية إسلامية ابتدعوها ما فرضها الله عليهم . و في الجملة إنك عند المعاينة لا ترى إلا كل حزب بما لديه فرح و مسرور , ثم لا تجد إلا و الأمة صارت شيعا و تفرقت جماعات و صارت غثاء كغثاء السيل لا رجاء منه و لا نفع , قد تداعت عليها الأمم نهبا و سلبا و سخرية و هي أمة محمد صلى الله عليه و سلم . هذا بعض الذي يريدونه منا أم عساهم يسعون أن تكون كل الأمة أئمة و مشايخ , فتضع عن نفسها كل ما يقيمها و تهمل كل شأن يرفعها بين الأمم و تقبع لا شأن لها إلا الجدال و المراء و التنابز , أم أنهم يريدون منا أن نقيم أندادا لله نعبدها من غيره , نداد تسمى دعاة و وشيوخ , تاالله ما هذا ديننا الذي ارتضاه لنا المولى عز و جل و ما هذا بهدي الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى " تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " ماذا نريد منهم ؟ أما نحن فشأننا بسيط متواضع لا نريد إلا أن يكونوا على سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم , و على هديه و هدي الخلفاء الراشدين المهدين , فقد تصدروا المجلس , و ارتقوا مكانا عليا فوجب عليهم أن يقيموه أو ليتركوه , و حملوا الأمانة فأما أن يؤدوها كاملة أو يذروا الأمر إن كان ليس لهم به طاقة , فالله لابد و أن يقيض لهذا الأمر رجاله . و من هدي الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ما جاء في الأثر " عن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: "كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا" " عن أبي وائل قال: كان عبد الله – يعني: ابن مسعود – يذكّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لودِدْت لو ذكرتنا كل يوم. قال: أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتخولنا بها؛ مخافة السآمة علينا". طبيعة البشر العجولة الملولة لا تصبر على الأمر الطويل , المعاد الكثير , و نحن نرى في الفضائيات ضغطا كبيرا و كثافة في المواعظ و الدروس ما يثقل العقل و النفس و يشعرنا في الكثير من الأحيان بالسأمة و الملل , فلا نكاد نركز في بداية الكلمة حتى تتخطفها الشوارد بعيدا عن المتكلم لكثرة ما يقول , و قد كانت من ميزات العرب قديما الإيجاز و الاختصار , فالغاية ليست في الكمية بل في نوعية ما يقال , ورب كلمة قصيرة حوت معان جمة غيرت النفوس و العقول ,و أرشدت إلى صالح الدنيا و الأجرة . و قد لا تأخذ الموعظة مكانها فينا و لا تعمل عملها إلا عندما نرى من يحدثنا عنها و يذكرنا بها هو السباق إلى تطبيقها , يخرج من حيز الفكرة إلى حيز العمل أو كما قال المفكر مالك بن نبي الفاعلية التي تنتج الحضارة , أو على حسب قوله أيضا عمل العقل و القلب و اليد , و انظر إلى القدوة الحسنة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و هو يحاول أن يدفع اصحابه إلى الإنتاجية و الفاعلية مخرجا إياه من شرك الفكرة التي قد تطول محبوسة فتتعفن و تكون وبالا على صاحبها و على من هم حوله كما هو حاصل الآن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا ، قَالَ : " مَنْ عَادَ مَرِيضًا ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا ، قَالَ : " مَنْ شَيَّعَ جَنَازَةً ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا ، قَالَ : " مَنْ جَمَعَهُنَّ فِي يَوْمٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ . كل الأعمال التي سأل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم في جهد و مشقة , تخرج بالعبد من حدود الذاتية و الاكتفاء بالنفس إلى المجتمع و المشاركة فيه و تقديم الأفضل عنده بلا كثرة كلام و تنطع . و لو تتبعنا أقوال الرسول في الحض على العمل و ترك الثرثرة لما وسعنا المقام لجمعها و في القرآن فصل الخطاب و هو الذي لا يفصل الإيمان عن العمل , العمل الذي يتجسد في التفكر و التعقل و التأمل و الترجمة المناسبة لكل هذا فهو يجمل بين الفكرة و التطبيق بناقل حركة , موفرا الزخم الذي يغير من حياة المؤمن و لا يتركه عالة على غيره و عنوانا للكسل و التخلف . شخصيا أنا اعتبر حصة " خواطر" لمقدمها أحمد الشقيري أفضل بكثير من دروس دعاة الفضائيات فهو بمقارناته و محاولته بعث الحياة في المجتمع المسلم عن طريق الفكرة و الحركة يمثل الدعاة الحق و المثال الذي يحتدى فبارك الله له في عمله , و هناك من اختلف معه في الكثير من الأمور و لكني معجب بجهد و مثابرته الأستاذ طارق السويدان فهو من الذين يحاولون إيجاد مخرج من التخلف الذي نحن فيه و هو يقدم أشياء تساعد في التحرر و الانطلاق و كسر حاجز الخوف و التردد . هذا ما نريده من الداعية أن يتحرر و يحرر الناس فلا يبقى يواجه الناس بالكلام فقط بل ليبادر الناس بالعمل و الخروج إليه , و ليجدوه مشمرا على ساعديه , يعطي القدوة و يرفع المثال . ليكن على نهج رسوله صلى الله عليه و سلم .