هل هو الليل من جديد؟؟ ربما .. تباغتني المسافات المتعبة.. تلك التي أقطعها في ظلام حالك.. تلك التي ألمس يتمها بين ظلوعي.. المسافات الطويلة جدا، المسافات القاتمة.. المسافات الباردة والحارة، المظلمة والواضحة، المسافات التي تخلط نبيذ الحياة بخمرة العالم الآخر.. سحابات سوداء تشق فتات الصمت المتناثرة بين أزقة هذه المدينة التي أراها قد اتسعت أكثر مما يكون عليه الاتساع.. وأرى نفسي فيها تضيق أكثر مما يكون عليه الضيق.. عوالم تتغير مثل نهاراتنا الصيفية وهي ترتحل إلى فترات البرد.. شيء من فصول الذاكرة ينساب في بطء إلى مرأى الكونية التي تغافلنا في اعتقاداتنا.. هكذا تأتي إلي أخبارك المسائية في رحيل الوالد وهي تعانقني في فجأة الوحدة وأنا ألملم بعض نفسي.. ألملم بعض ألفاظي المتعبة.. ألفاظي المبللة وسط الحيطان الرطبة.. ومعانيها التائهة وسط وجوم الأماني وهي تتحلق في سماء غير سمائها .. تحاورني كلماتك في عتاب الصديق الذي ظل بعيدا، وحكمت عليه الظروف أن يكون كذلك.. ظروف اشتركنا في بعثرتها.. وربما في لملمتها وبعثرتها آلاف المرات .. تخاطبني هذه اللغة البعيدة عني والتي عشقت تراتيلها وانسيابها خلفي وبعدي .. تشق جيوب أماكني الخفية لتبعث في ريق السدى كلماتك التي لازالت تتردد على مسامعي.. لا زالت تقرع أبواب الصمت التي أحاطت غرف فكري.. فهل سأعزيك فقط، وأترك للذاكرة صفتها التي لازمتنا طويلا؟؟ هل ستجيبني هذه الجدران المبللة التي تحولت ألوانها إلى لون واحد.. رمادي بلون الماء.. هذا الرحيل يعزل الذاكرة في فضاء واحد تحتوي فيه كونية حياتنا.. لتبقى متجددة في أحداثها، في صورها البعيدة والقريبة، في الأماكن الراكدة وفي سيول الحقول التي ألفناها في صحبة كل مساء كان يمضي وفيه بعض روائح قهوة تلك العجوز.. تلك التي لا زالت تعطّر كفيها وثيابها بعطور المكان.. ولازلنا يا صديقي نشم عبق سحرها الليلي وهي ترتل دعواتها في كل حين .. تبتسم رغم آلامها .. تنثر حولنا كل الأماني النقية .. تعيننا في أنفسنا المهمشة دائما .. هذه ذاكرة لا نعبرها أبدا .. تظل نفسا يتجدد في كل ثانية .. فعزائي الوحيد أن هناك عشبٌ تحت الجدار دائما ..