مدرسة الإخلاص الحمد لله الّذي تتمّ بنعمته الصّالحات؛ حمدا يليق بجلاله و عظيم سلطانه، و الصّلاة و السّلام على رسوله محمّد و على آله و صحبه، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، ثمّ أمّا بعد: فقد وقع تاريخ مدرسة الإخلاص، مُنذ تأسيسها إلى تاريخ تسليمها لوزارتي الأوقاف و التّربية و التّعليم، في خلط و تزييف، لتعمّد أو لجهل بالتّواريخ و الأحداث، قال الله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) آل عمران/65، و قد اطّلعت فيما اطّلعت عليه من وثائق خاصّة بالمدرسة المذكورة، و بتاريخ الإصلاح (جمعيّة العلماء) بمدينة الجلفة، الّتي كانت من بين الوثائق الّتي تركها الشّيخ شونان محمّد بن المختار ( ت 1993 م)؛ تُبيّن غير الّذي ذكره من تصدّى لتأريخ هذه المدرسة، وهو الشيخ محمد بوخلخال (1) في مقاله "مسيرة مدرسة الإخلاص في سطور"، و الّذي عُرف في ما بعد بتوجّهه الفكري الغير مُوافق للفكر السّلفيّ الصّحيح الّذي جاءت به الجمعيّة، لاسيما و أنّ الإصلاح وجد عواثير و عراقيل، وضعها بعض شيوخ الطّرقيّة، فقد ذكر أن مدرسة الإخلاص عرفت النّور سنة 1943 م (2)، بمسكن إبراهيمي عبد الله، و أنّ أوّل المدرّسين بها هو الشّيخ مسعودي عطيّة ( ت 1989م )، ثمّ نُقلت إلى مقرّها الثّاني، و هو مقرّ الكشّافة الإسلاميّة، قرب خزّان الماء، بوسط المدينة (الجلفة)، ثمّ نُقلت مرّة ثالثة، سنة 1946 م، إلى مقرّها الحالي، الّذي كان مسكنا خاصّا تمّ امتلاكه، و أُعيد بناؤه و فق ما يتناسب مع وظيفتها، و وُضعت تحت وصاية جمعيّة العلماء، بداية من التّاريخ الّذي أشار إليه، و ذكر مجموعة من الّذين درّسوا بها، على غرار الرّايس محمّد (ت 1968 م)، و لبقع لخضر ( ت 1984م)، و غيرهما، كما أنّه ذكر أنّ الشّيخ شونان محمّد لم يُعرف إسمه في الجمعيّة الّتي تُسيّر شؤون المدرسة، إلّا في سنة 1946 م، بعد التّجديد الّذي عرفته. و كلّ الّذي ذكر يحتاج إلى مراجعة و تحقيق؛ فريح الإصلاح بدأت تهبّ على منطقة الجلفة، بداية من سنة 1926 م (3)، و هي السنة الّتي توطّدت فيها علاقة الشّيخ شونان محمّد، بالإمام المجدّد عبد الحميد بن باديس (ت 1940 م)، الّذي ابتدأ مشواره الدّعوي بقسنطينة و ضواحيها، على الطّريقة السّلفيّة، مُباشرة بعد عودته الميمونة من الشّرق، ثمّ شاركه في هذا الأمر رفيقه العلّامة الفحل محمّد البشير الإبراهيمي، الّذي عاد هو الآخر من الشّام سنة 1920 م، و بدأ في نفس المهمّة، بموطنه ريغة بسطيف، و جرت بينهما لقاءات عديدة، و كان قد التقا سنة 1913 م بالمدينة المنوّرة(4)، و تشاورا في شأن أوضاع الجزائر الّتي كانت تعيشها، و قد بدأ يتضوّع ريح الإصلاح، بالشّرق الجزائري بداية من سنة 1925 م (5). شرع الشّيخ شونان محمّد، بطلب من الإمام المذكور، بماله الخاصّ، و بمال بعض المخلصين من مدينة الجلفة وقتئذ في تأسيس أولى لبِنات التّعليم الدّيني بالجلفة، سنة 1927 م، الّتي عُرفت في افتتاحها الرّسمي سنة 1932 م، بمدرسة الإخلاص، و هذا التّاريخ يُذكّرنا بالزّيارة التّاريخيّة الّتي قام بها الإمام ابن باديس لمدينة الجلفة، في صائفة 1932 م ( ربيع المولد 1351 ه)، في إطار رحلته إلى العمالة الوهرانيّة وقتذاك، و التقى فيها أعيان المدينة، يتقدّمهم، بطبيعة الحال الشّيخ شونان، بصفته الممثّل الرّسمي للجمعيّة و للإصلاح، و قد حضر هذه الزّيارة الشّيخ مسعودي عطيّة كغيره ممّن حضر، و ليست له أيّة علاقة بمشروع جمعيّة العلماء، و لا بزعيمها ابن باديس، إنّما حضوره جاء تلبية لرغبة من دعاه للحضور، بصفته أحد علماء المنطقة. و أوّل مقرّ لها كان بالشّارع المؤدّي، من الطّريق الوطني رقم 01 الّذي يشقّ مدينة الجلفة، إلى متوسّطة ابن عيّاد سابقا، مُقابل عمارات حيّ أحمد مدغري، ثمّ تمّ تحويلها إلى مقرّ مُقابل سوق الأقمشة و الألبسة (لافوار)، لمدّة ، ثمّ نُقلت إلى مقرّها الثّالث، و هو مقرّ الكشّافة الإسلاميّة، قرب خزّان الماء، بوسط المدينة، و مقرّها الرّابع و الأخير هو المعروفة به اليوم، و الّذي تولّى تسيير إدارتها و شؤونها، منذ تأسيسها هو الشّيخ شونان، ليس هناك غيره، و هو الّذي كانت تجري بإسمه كلّ المراسلات الإداريّة و غيرها، بين المدرسة، و بين مكتب جمعيّة العلماء (6)، و قد وجدنا ذلك ظاهرا في سجّل المدرسة، و في ما نشرته الجمعيّة آنذاك، عبر جرائدها، لاسيما منها البصائر، و ما أدراك ما البصائر، و ما نشره هو شخصيّا، عبر الجريدة المذكورة، و هو الّذي أيضا اختار الشّخصيات الّتي تُدرّس بها، و قد وجدنا إسمه وحيدا من بين أهل الجلفة، ضمن الشّخوص الّذين كانوا يحملون دعوة الجمعيّة، عبر المدن و القرى الجزائريّة (شرقا و غربا و شمالا و جنوبا) الّتي وصلتها دعوتها، و قد دُوّنت أسماؤهم في سجل الجمعيّة، و نُشرت في جريدة البصائر، قبل أن تتوقّف في سنة 1956 م؛ لظروف الحرب القائمة. و قد بقي الشّيخ شونان محمّد على هذه الحال عدا بعض السّنوات من فترة الثّورة المباركة، حيث تمّ نفيه إلى المغرب، بعد سجنه عدّة مرّات لنشاطه النّضالي و الثّوري المكثّف إلى أن سلّم شؤون المدرسة، للوزارة الوصيّة، حيث أصبحت تحت إمرتها، في جويلية 1963 م. أمّا ذكره من أن الشّيخ مسعودي عطيّة هو أوّل من درّس بها، سنة 1943 م، فهذا غير سويّ، و لا ينسجم تماما، مع الطّبيعة التّاريخيّة للمدرسة، فالمدرسة بدأ التّعليم فيها بصورة حرّة و خافتة، سنة 1932 م، و اشتدّ بعد سنة 1940 م، و هي السّنة الّتي صارت فيها مدرسة نظاميّة تابعة لمدارس الجمعيّة رسميّا، أمّا سنة 1943 م فهي تاريخ مجيئ الشّيخ سي عطيّة إلى مدينة الجلفة قادما من الزّاوية الجلّاليّة (7)، و تولّيه إمامة جامع الجمعة (مسجد سي أحمد بن الشريف حاليا )، بعد وفاة الإمام الإصلاحي رابحي بربيح، في 27 فيفري 1943 م، الّذي كان إماما خطيبا به، منذ سنة 1938 م، و كان سندا قويّا لجماعة الإصلاح بالجلفة. و قد درّس سي عطيّة بالمدرسة بعد أن استقرّ بمدينة الجلفة أيّاما ، ثمّ انقطع لأسباب؛ فلم تكن له رغبة قطّ، في دعم فكر الجمعيّة و نشره، فهو رجل صوفيّ طرقيّ، تربّى و شبّ و اكتهل و شاخ وفيّا لمبادئ فكره و منهجه (رحمه الله)، و ليس ذلك خافيا على كلّ عاقل منصف. و الله أعلى و أعلم . أمّا قوله أنّ مدرسة الإخلاص أصبحت تحت وصاية جمعيّة العلماء، في سنة 1946 م، فهذا أيضا لا يُقبل؛ لأنّ كما أشرنا، المدرسة أصبحت ذات تعليم نظامي مُحكم و مُؤطّر، و تابعة لجمعيّة العلماء، منذ سنة 1940 م، بعدما كان التّعليم فيها حرّا، بداية من سنة الافتتاح 1932 م، لكنّه تحت غطاء الإصلاح الّذي جاءت به الجمعيّة. أمّا قوله أنّ شونان محمّد لم يرد إسمه في تسيير شؤون المدرسة، إلّا في سنة 1946 م (8)، إثر تجديد أعضاء الجمعيّة الّتي تُعنى بزعمه بشؤون المدرسة المذكورة، و هي بطبيعة الحال غير جمعيّة العلماء، فهذه هي الدّاهية الدّهياء؛ فالرّجل وثائقه تُثبت ارتباطه بالإصلاح و برائد الإصلاح، منذ سنة 1926 م، و تُثبت أيضا شروعه في افتتاح صرح هذه المدرسة الإصلاحيّة لا الطّرقيّة، منذ سنة 1927 م، إلى تاريخ افتتاحها كما ذكرنا، سنة 1932 م، و كل مراسلات جمعيّة العلماء و منشوراتها بخصوص مدينة الجلفة شاهدة على ذلك. أمّا الّذين درّسوا أو درسوا بها فهم كثر و كانوا أمشاجا؛ فالهدف الأوّل لهذه المدرسة هو التّعليم الّذي يمحو الأمّيّة، و يرفع الجهل، بالجلفة و ما يتبعها في ذلك الحين من مدن و قرى، و قد حقّقت منه نسبة طيّبة، و الفضل لله وحده الّذي يسّر ذلك؛ بما أجراه من خير و بركة على يد جمعيّة العلماء، و على يد ابنها البار شونان محمّد بن المختار غير مُدافع حينما استعان ببعض الشّيوخ و المعلّمين للتّدريس بها، مُقابل أجر مُتّفق عليه بالتّراضي، و كان بينهم من يُعلّم الفرنسيّة، على غرار باقي المواد، من العربيّة و الحساب، و غيرهما، و ليس له أيّ توجّه فكري أو مذهبي أو سياسي ( حزبي )، فقد استعانت جمعيّة العلماء في وقت الحاجة و على قدرها بمقابل ماديّ محض، ببعض الكتّاب و الأدباء، و بمن يُحسن اللّغة الفرنسيّة كأهلها، لتسيير بعض شؤون مدارسها الإداريّة؛ سجلّات أو مراسلات أو غيرهما، عبر تراب القطر الجزائري تقريبا، و إن كان لا يُمثّل فكرها أو منهجها، أو هو على خلاف معها، على غرار أحمد رضا حُوحُو البسكري الكاتب المعروف، و محمّد الأمين العَمودي السُّوفي. و للأمانة التّاريخيّة و العلميّة، فإنّ منطقة الجلفة عرفت رجالا، عُدّوا من الإصلاحيين، منهم من كان من أهل العلم، على غرار الشّيخ عبد القادر، المعروف بعبد القادر بن إبراهيم المسعدي، و الرّايس محمّد، و رابحي بربيح، و منهم من كان من أهل الفضل، كدروازي بن فايت، و لبقع لخضر، و كاس محمّد البخيتي، المعروف بابن البخيتي، و إبراهيمي عبد الله، و غيرهم كثير. و الطّرقيون المزيّفون و ما أكثرهم بهذه المنطقة لم تكن لهم علاقة بهذه المدرسة قطّ، لا من قريب و لا من بعيد، و من يجعل بينهما نسبة فقد جانف الحقيقة، و أقول بصراحة أنّ هذه المدرسة عندما استلمتها الجهة الوصيّة (بعد الاستقلال)، أصبحت كغيرها من المدارس الّتي افتتحتها الدّولة، للتّربية و التّعليم، و لما استغني عنها بعد ردح من الزّمن؛ لكثرة ما تمّ تشييده من مدارس لجميع أطوار التّعليم المعروفة، صارت إرثا ثقافيّا تاريخيّا لهذه الولاية، و لزاما على القائمين عليها اليوم، أن يُحافظوا على الخطّ الأوّل الّذي أُسّست لأجله، و قد سارت عليه بعد افتتاحها حينا من الدّهر كما لا يخفى و أن ينسبوا الفضل إلى أهله و لا يكتموه، و ألّا يُحرّفوه من بعد مواضعه، فجمعيّة العلماء تبقى جمعيّة العلماء الّتي أسّست على إحياء السّنّة و اتّباع السّلف من القرون الثّلاثة الأُول (الأول )، من أوّل يوم لها، و إن تهلهلت و حادت، و الله على كلّ شيء شهيد. و بالله التّوفيق . و صلّى الله و سلّم على سيّدنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين. (*) أبو محمد سعيد هرماس، كاتب و باحث تلاميذ مدرسة الإخلاص -سنة 1956 تلاميذ مدرسة الإخلاص -سنة 1956
تلاميذ مدرسة الإخلاص -سنة 1971 هوامش 1 و هو الشّيخ المربّي الخلوق بوخلخال محمّد ، في مقاله "مسيرة مدرسة الإخلاص في سطور" ، يقع في أربع صفحات، مكتوبة بالحاسوب. 2 و ذكر أيضا أنّ نادي الإصلاح تأسّس بالجلفة، سنة 1937 م، و أنّ الشّيخ عبد القادر بن إبراهيم المسعدي ( ت 1956 م )، هو الّذي تولّى التّعليم و التّدريس به ، و أنّ فرع الكشّافة الإسلاميّة الجزائريّةبالجلفة، عرف النّور سنة 1939 م . 4 كان لقاؤهما هذا هو النّواة الأولى لتأسيس جمعيّة العلماء ، التي تأسّست فعليًا في ماي 1931 م . 3 و 5 لنا في ذلك وثائق . 6 كلّ الرّسائل الّتي ترد من المكتب الوطني لجمعيّة العلماء ، إلى مدينة الجلفة ، أو إلى مدرسة الإخلاص تحديدا ، في ذلك الوقت ، تأتي بإسم شونان محمّد ، و كلّ الرّسائل الّتي تُرسل من مكتب مدرسة الإخلاص إلى الجمعيّة ، قبل الاستقلال ، هي مُمضاة من طرف شونان محمّد ( هذا حسب مبلغنا من العلم و الله أعلى و أعلم ) . 7 كان قبل الجلّاليّة طالبا للعلم بالشّمال الجزائري، مُتنقّلا من بلاد القبايل إلى العاصمة إلى البليدة، حيث الشّيخ محمّد بن جلّول، و هو آخر المشايخ الّذين التقاهم، قبل عودته إلى موطنه . 8 و هذا قريب ممّا قاله بعض الفضلاء الّذين لهم شأن و منزلة بهذه المنطقة ؛ فقد قال عندما سأله بعض طلبة قسم التّاريخ ، بجامعة الجلفة ، عن تاريخ مدرسة الإخلاص، أنّ شونان محمّد ليست له أيّة علاقة بتأسيس مدرسة إخلاص، و أنّه لم يُعرف إسمه إلّا بعد تأسيسها، الّذي يعود إلى ما بعد سنة 1940 م ، بمدّ ، على حدّ قوله. و الله أعلى و أعلم .