شريك يساهم في صياغة الحلول المواجهة التحديات الناجمة عن التغيرات يواصل الاتحاد العام للعمال الجزائريين حمل لواء الدفاع عن عالم الشغل ومكاسب الجبهة الاجتماعية مسجلا تواجده في الساحة كشريك ايجابي يساهم في صياغة الحلول الممكنة لمواجهة التحديات الناجمة عن تغيرات سريعة وعنيفة أحيانا للمنظومة الاقتصادية الوطنية. ويرتقب أن يتم الانتهاء من عملية تجديد جميع الهيئات النقابية القطاعية التي تتواصل قبل ثلاثة أشهر القادمة. وفي إطار تجديد النفس من المقرر أن تودع المركزية ملف الانخراط النقابي كاملا لدى وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي قبل 31 مارس القادم ويتضمن الملف معطيات تؤكد سلامة النقابة العتيدة وقوتها التمثيلية من خلال تسجيل 2.737.925 منخرط من بينهم 257270 عاملة ما يعادل 11 بالمائة من إجمالي المنخرطين إلى جانب 37525 متقاعد. تمثل الذكرى الثانية والستون لتأسيس هذا التنظيم النقابي العريق الذي رأى النور في خضم الثورة التحريرية المجيدة بمبادرة من الشهيد عيسات ايدير الذي طوّر نضاله ضد الاستغلال والهيمنة والاحتقار والنهب الذي مارسته الإدارة الكولونيالية الفرنسية المتعفنة ليطلق ميلاد الاتحاد لعام للعمال الجزائريين باعتباره إطارا نقابيا موجها للعمال الجزائريين والتخلص من التبعية لنقابات فرنسية. في 24 فبراير 1956، برز نجم اتحاد العمال في الساحة الجزائرية معززا الحركية النضالية والكفاح الذي فجرته قيادة جبهة التحرير الوطني قبل سنتين من ذلك. وضمّت صفوف النقابة الحديثة كفاءات من توجهات ايديولوجية أغلبها تحمل قناعة راسخة بقيم العدالة والتحرّر ورفض استغلال الإنسان، الأمر الذي بلغ ذروته في ظلّ الرأسمالية الاستعمارية. وقدمت تلك النخبة بقيادة عيسات إيدير الكثير من التضحيات في سبيل أعلاء صوت العمال ليس حول مطالب مهنية واجتماعية حينها وإنما حول مسار الكفاح التحرّري ومناهضة الاحتلال الغاشم، الذي طارد من خلال أجهزته القمعية جميع من انضوى تحت لواء اتحاد العمال الجزائريين فاغتال منهم العديد واقتاد الكثيرين إلى السجون. من دهاليز الزنانزين القاسية والمظلمة التي أعدها الإدارة الاستدمارية الفرنسية للشعب الجزائري، والتي كانت تعجّ بالمناضلين من مختلف التيارات الوطنية والمناضلين الثوريين، انبثق شعار تلك المنظمة النقابية الطلائعية ليعكس توجهاتها الوطنية وخياراتها الاجتماعية ويؤكد انخراط العمال الجزائريين في الديناميكية التحررية من أجل استرجاع السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة. بعد أن أثمرت ثورة التحرير بإنجاز الهدف المسطر المتمثل في استرجاع السيادة الوطنية عقب مراحل متكاملة من الكفاح المسلح والنضال الدبلوماسي النوعي مثلما تبين في مفاوضات إيفيان التي جسّد فيها وفد الحكومة الجزائرية المؤقتة التزاما واضحا ببيان أول نوفمبر ضمن انسجام مع كافة القيادات الميدانية، تموقع الاتحاد العام للعمال الجزائريين منذ الوهلة الأولى للاستقلال في المواقع المتقدمة على جبهة البناء والتشييد، فكان من الركائز الفاعلة إلى جانب القوى الحية المختلفة في شقّ الطريق الصعب لإعادة النهوض بالمجتمع الجزائري تحت راية الدولة الوطنية المستقلة. وبمجرد أن تمّ - في ظلّ خيار مؤلم وشديد المرارة بين إخوة الكفاح - تجاوز المرحلة التي اتسمت بخلافات حول الخيارات الكبرى لإدارة مقاليد الحكم وإرساء أسس التصحيح الثوري الذي جرى في منتصف سنة 1965 انطلقت عجلة التنمية الشاملة الرامية إلى محو مخلفات الوجود الإستدماري اللّعين وإعادة بناء ما خربته عصابات المنظمة المسلحة السرية الفرنسية قبيل اعتراف فرنسا بحق الشعب الجزائري بتقرير المصير والانتقال به تحت قيادة الدولة الوطنية إلى مرحلة لائقة تعلو فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها المضمون الجوهري للحقوق السياسية. ولم يتأخر العمال بقيادة منظمتهم النقابية عن مواكبة مسار البناء والتشييد خاصة في محطات مفصلية مثل التأميمات التي شملت المناجم والبنوك في أواخر الستينات ثم المحروقات في 24 فبراير 1971، في خضم إعلان إطلاق خيار الثورة الصناعية إلى جانب شقيقاتها الفلاحية والثقافية. وأدرك عالم الشغل في تلك المرحلة النوعية مدى الاهتمام المتميز الذي تخصّصه الدولة الوطنية، ولا تزال عقيدتها كذلك إلى اليوم، لشريحة العمال باعتبارهم الحلقة المتينة في بناء جسر التحول الاجتماعي. ولعب الاتحاد دورا متعدّد الأشكال يشمل مجالات سياسية ونقابية واجتماعية بحكم طبيعة السلطة في تلك المرحلة حيث تولى القيام بالتزاماته كشريك على كافة المستويات، خاصة وأن الدولة سجلت في أولوياتها جملة من المبادئ الحيوية يتقدمها الحق في العمل والعيش الكريم، فاستوعبت الاستثمارات الصناعية التي أسّست قاعدة صلبة لا تزال تنبض بالحياة إلى اليوم رغم تغيرات مسّت المحيط محليا وعالميا. وكانت تلك الفترة بحقّ مرحلة مزدهرة اجتماعيا إلى درجة أن عالم الشغل وفر فرص العمل لآلاف الجزائريين الذين كانوا في المهجر وعانوا في بداية السبعينات من العنصرية والاغتيالات المنتظمة، فواجهتها الدولة الحديثة بقرارات شجاعة وجدت الصدى لدى جميع الأوساط يتقدمها الاتحاد العام للعمال الجزائريين بعنوان عودة المغتربين إلى أرض الوطن والعيش فيه بأمان وكرامة. ويسجل التاريخ مقولة الرئيس الراحل هواري بومدين مخاطبا أبناء جلدته هناك»عودوا إلى بلدكم ولنأكل العشب إن اقتضى الأمر» مشيرا إلى الثقل المالي والاجتماعي. وما إن انطلق قطار التنمية الحقيقية حتى ازدهر عالم الشغل وكان للتنظيم النقابي مساهمة ملموسة في تجسيد تلك الخيارات من خلال تواجده في مواقع العمل بانسجام مع طبيعة المرحلة المتسمة بنظام الحزب الواحد الذي وضع المصلحة الوطنية في الصدارة ومن ثمّة انخراط كافة القوى الاقتصادية والاجتماعية في بوتقة واحدة بكل ما تثيره من جدل بين مؤيد لها ومعارض إلى أن حلّت ساعة التغيير في أواخر الثمانينات، التي سجلت توجهات جديدة بقدر ما حملت معها تطلعات مشروعة بقدر ما عصفت بمكاسب حيوية. ولم يكن بإمكان الاتحاد لعام للعمال الجزائريين البقاء على هامش التحولات العنيفة، خاصة وأن موجة غير مسبوقة استهدفت مكاسب الطبقة الشغّيلة كشفت عنها يوميات ما بعد احتجاجات 5 أكتوبر 1988 وتداعياتها بالموازاة مع الانفتاح الشامل وإنهاء مرحلة الحزب الواحد باعتماد دستور 1989. واتجهت نيران الحريق المباغت بمختلف أشكاله - سواء عن جهل أو عمد، عفوية كانت أو مدبرة - إلى رموز القطاع لعام من أسواق بمعايير دولية ووسائل نقل تحققت بعناء وتضحيات ومعامل بنيت وجهزت بسواعد وأموال الجزائريين. وانكشفت المؤامرة بشكل جلي مع بداية التسعينات جراء المخطط الإرهابي الجهنمي الذي استهدف مكاسب المجتمع بالتخريب الممنهج، حيث بلغت الخسائر المادية فقط بفعل تدمير مصانع وتخريب وسائل إنتاج إلى جانب تعطيل مسار الاستثمار أكثر من 20 مليار دولار. وما زاد الطين بلة في تلك المرحلة وقوع البلاد في قبضة صندوق النقد الدولي بسبب توقفها عن التسديد والتوجه مرغمة إلى عادة جدولة المديوينة الخارجية بشروط قاسية ألحقت الضرر الجسيم بعالم الشغل بين تسريح للعمال وغلق لمؤسسات وكسر للقدرة الشرائية. ولتفادي انهيار المنظومة الاقتصادية والاجتماعية تحلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين بقيادة الراحل عبد الحق بن حمودة برؤية تفتح آفاقا جديدة تخرج الأوضاع من النفق وذلك بمساهمتها الفعالة مع الحكومة آنذاك في صياغة خيارات ولو بحد أدنى من الضمانات مثل إنشاء صندوق التأمين على البطالة والتقاعد المسبق لإنقاذ أكبر عدد ممن من العمال الذين عصفت بهم أمواج التسريح وغلق المؤسسات. وتعرض العديد من النقابيين في تلك العشرية السوداء لاغتيالات واعتداءات نفذتها الجماعات الإرهابية التي أرادت تركيع بلد لا يمكنه ذلك وتجويع شعب لا يقبل مقايضة كرامته. وهي الرسالة التي وجدت الصدى مباشرة لدى المجموعة الوطنية لتتحمل المسؤولية كاملة في الدفاع عن الجزائر بكل موروثها من هوية منسجمة ومكاسب ثمينة وتطلعات للأجيال المتعاقبة إلى أن جاءت المصالحة الوطنية التي ترجمها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لتنتشل البلاد كلية من أتون أزمة متعدّدة الأشكال غالى بر الأمان. وكان اتحاد العمال مجددا في الموعد ليقوم بما يستوجبه الموعد كشريك أساسي يرفع اقتراحات أكثر مما يطرح مطالب مدركا للتحديات والرهانات التي تتطلب توخي الحذر وقراءة معمقة للمعطيات وتدقيق في المؤشرات، فانخرطت المركزية النقابية في مختلف دورات الثلاثية التي تشكل إطارا أمثل لمعالجة الملفات ذات الشأن الاقتصادي والاجتماعي بروح من المسؤولية دون مبالغة في المطالب أو تفريط في الحقوق. وكانت سنوات أكثر من ثلاث عشريات مضت مساحة زمنية تواجدت فيها النقابة العتيدة بكل تناقضاتها وانجازاتها في المشهد العام الذي أصبح يتميز بالتعددية النقابية من خلال بروز تنظيمات عديدة ذات طابع قطاعي تسعى للمنافسة في استقطاب المؤيدين. غير أن أغلب هذه النقابات خاصة بالنسبة لعدد منها في قطاع التعليم والصحة دخلت في ما يشبه مأزقا يبدو الخروج منه صعب لقيادييها بعد أن فضلوا أسلوب الإضرابات كخيار بدل الحوار. ويمثل الحوار قناعة ونموذجا في النضال النقابي الحديث بحيث يفتح المجال أمام الكفاءات النقابية لبلورة حلول لمعضلات وتسطير مخارج لمشاكل عالقة مع التزام صريح بالدفاع عن مكاسب المجموعة الوطنية أكثر من البقاء رهينة مطالب فئوية، مما يضر بسمعة التاريخ النقابي في الجزائر، في وقت يتطلّب تقديم صورة ناصعة للتعددية النقابية البناءة التي لا مجال فيها للاحتكار أو الهيمنة أو ممارسة الابتزاز والمقايضة. غير أن التحدي القائم اليوم أمام القيادة الراهنة يتقدمها عبد المجيد سيدي السعيد، الذي نال تجددي الثقة فيه من جانب مسؤولي الفيديراليات القطاعية في اجتماع عقدوه بدار الشعب قبل أسبوع للرد على حركة تصحيحية مزعومة أعلن عنها نقابي سابق، يتمثل في استرجاع مواقعها في بعض القطاعات التي خسرتها من خلال إعادة التجنيد على أسس متينة وتوسيع نطاق الحوار الاجتماعي من أجل حماية حقوق الأجيال والمجتمع التي يكفلها الدستور.